في اكتشاف الكنوز المنسية (٢) فساد الأمكنة لصبري موسى

رواية خالدة تأخرتُ كثيرًا في قراءتها، عمل سبق به مؤلفه عصره، فشيّد عالمه الغرائبي بتفرد شديد بمعزل عن أبناء جيله، إثر انعزال حقيقي استمر عدة سنوات أمضاها الكاتب في رحاب الصحراء، متنقلاً بين جبل الدرهيب وضريح الشيخ الشاذلي، ليعود إلينا حاملاً درة أدبية فريدة، أدعو الجميع لقراءتها.

نيكولا، شخص لا منتمي، لا يعرف له وطنًا، قضى طفولته مترحلاً رفقة أبيه، ثم وجد سكينته وسلامه في مواصلة الترحال، عقب عدة محطات ترك في إحداها زوجة وابنة من خلفه، حتى استقر به المقام في صحراء مصر، قرابة الحدود الجنوبية مع السودان.

وفي الصحراء، يشيد نيكولا عالمه الخاص، يحط الرحال في بداية الأمر كمنقب آخر عن الكنوز المخبوءة في رحم الأرض، رفقة منقبين أوروبيين آخرين، بيد أن الأمر لنيكولا يغدو مختلفًا، فهو لا يهتم كثيرًا بالكنوز التي لا يتوقف عن استخراجها، بقدر ما تشده نداهة الصحراء، فيتوحد مع المكان، ويتخد منه خليلة ورفيقة ووطنًا، وفي ذلك يوحد الكاتب بين مفردات المرأة والوطن، مازجًا بينهما مستخلصًا من ذلك المزيج الوجداني حالة السكن والسكينة المأمولة لنيكولا.

ينصهر الغريب في براح الصحراء، يصبح كلاهما جزء مكمل للآخر، حتى يفسد الإنسان صفاء الأمكنة، ويحيل البراح الآمن إلى سجن خانق بلا قضبان، يمرر إلينا الكاتب ذلك التحول عبر رصد لمصائر ثلاثة شخوص، الأول هو إيسا، الذي ابتلعه الجب المنسي فأضحى وليمة للثعابين، وما كان لينال مصيرًا كذلك لو لم ينتهك بكارة المكان، والثاني هو كريشاب الذي يفقد عقله عقب إنزاله القصاص بعروس البحر التي غررت بالكثير من الأحباب من قبل، وما كان كريشاب ليفقد عقله لو لم يعارض قانون الطبيعة، ولم يستمع لوساوس الإنسان الفاسد، أما الشخصية الثالثة، فهي إيليا الصغيرة، ابنة نيكولا التي تتحول إلى بؤرة تعاسته، وقد كانت مذ فارقت عتبات الطفولة مطمعًا للفاسدين، وطعم الخطيئة الذي حامت حوله أسراب المريدين، حتى اقتص المكان بها من الكافة، لتنتهي مراسم الدنس الإنساني، فتستعيد الصحراء بكارتها، وتسترد مكانتها الأولى.

توقفت هنا أمام تجسيد الفساد الأعظم في شخصية الملك فاروق، الذي لطخ بكارة المكان واستباح الإنسان، وهي رؤية تعكس الصورة الناصرية التي دأبت الثورة على ترسيخها في عقول المصريين، فقدمت لنا الرواية هذا الملك كشخص فاسد ماجن منقوص من أبسط أبجديات الإنسانية، فبأمره واقع كريشاب عروس البحر الميتة، وعلى يديه فقدت إيليا طهارتها، وفقد نيكولا عقله، حتى بلغت به لوثته أن تخلص من حفيده الذي غرسه الملك الماجن في جوف ابنته. ولكن؛ ربما أتغاضى عن فظاظة هذا التشبيه وما قد يفرضه من تسييس الحكاية، لو اكتفيت باعتبار الملك رمزًا لفساد السلطة، ولو تغاضيت عن أن الدولة قد منحت الكاتب إجازة تفرغ للانتهاء من هذا المنجز الروائي، وما قد يستنتج من ذلك من الترضيات المتبادلة بين كاتب تبنى رواية الثورة والدولة عن الملك، ودولة منحت الكاتب جائزتها التشجيعية عن ذات الرواية.

رغم ذلك؛ تظل روايتنا رواية فذة، أجواء صوفية بديعة، غوص في عمق معاني الوجود ما بين فطرة الخير وجنوح الإنسان إلى الشر والفساد، توحد كامل بين الإنسان وبيئة المكان، عمل أدبي عظيم، يستحق الاحتفاء والتكريم، خصوصًا وقد شب من خلاله الكاتب عن طوق السائد والمألوف في زمانه، فأبدع لنا عملاً مختلفًا، شديد التفرد والتماسك.

رواية أدعو الجميع لقراءتها، وتحية واجبة لدار الشروق على إحياء مثل هذه الأعمال الخالدة عبر إعادة نشرها.

وللحديث حول الكنوز الأدبية المصرية المنسية بقية…

#محمد_سمير_ندا
#في_اكتشاف_الكنوز_المنسية

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ