العاوون… ثلاث ومضات من حياة بلا أجنحة في بلاد الضباب

من جديد يقدم الكاتب السوري إسلام أبو شكير درسًا في فن التكثيف الروائي الذي سبق وتحدثت عنه في روايتيه السابقتين، “زجاج مطحون” و”خفة يد”، ولم أتحدث عنه سابقًا في نصوصه القصصيّة والسردية والذاتية، وروايته القصيرة الفذة التي لم تُقرأ كم ينبغي؛ القنفذ.

هذه النصوص جميعًا تحوي من الرمزية ما يُثقل قيمتهما ويجعلها قادرة على إفراز مئات الصفحات الإضافية في عقل القارئ الذي يعتقد للوهلة الأولى أنه يقرأ رواية أو قصة قصيرة حسب عدد صفحاتها، لكنه لا يلبث أن يعي الفخ الذي اجتذبه إليه الكاتب، فيسقط بين صفحاته منتشيًا، ويخرج منها والدوار يلازم خطواته.
و”العاوون” لا تختلف في تقنيتها المفخخة عن سابقتيها، تكثيف محكم وترميز صارخ، وجرأة بالغة في كتابة عن بشر مجنحين يمكنها أن تحيل الكاتب إلى محاكمات التشابه والاقتباس مع أكثر من نص أدبي، ولكن؛ يمكنني أن أفند هذه الآراء من دون الإنقاص من قيمة نص، أو التحيز إلى آخر، في محل ما من هذه القراءة…

عواء الحر في البرية…
من المعلوم لدى دارسي النقد الأدبي أن عنوان النص هو عتبته الأولى، واستنادًا إلى هذا المنطق المعلوم استوقفني العنوان كثيرًا، وما أضاءته الحكاية لاحقًا في ذات الخصوص، فالكاتب هنا أراد أن يرتدّ بالكائن البشري إلى آلاف سنين مضت، ليجدل الحريّة بالفطرة، ويزاوج بين جناحي الصغير وسلوك الإنسان القديم، وربما أراد بذلك أيضًا صياغة مقارنة ذكية بين حرية الإنسان المسلوبة وحرية سائر المخلوقات في البرية، ليصدم القارئ بحقيقة دمغتها الأنظمة العربية منذ عقود، مفادها أن للذئب حرية العواء في قفار الصحارى، بينما لا يمتلك الفرد منا حريّة الكلمة، ولا حتى حق الصراخ.

الإحالات والترادف الروائي
فكرة ترميز حرية الإنسان من خلال منحه جناحين تعدُّ فكرة مطروقة، سبق لكتاب آخرين تناولها، سواءً في القصة أو الشعر أو الرواية، وهي -أي الفكرة- ليست مقيّدة بحقوق ملكية، لا لأبو شكير، ولا لمن سبقه، أو لمن سيكتبها بعده، ولكي أوجز حالة الترادف التي قد تؤخذ على هذا النص (أو نصوص أخرى) بالسلب وفق تقاليد الهجاء العربي المعتاد، فإنني أضيّق مساحة المقارنة لأختزلها في صنف أدبي واحد هو الرواية، وهويّة واحدة هي الرواية العربية، وزمن محدد هو الزمن القريب.
انطلاقًا من ذلك يمكنني أن أذكر رواية أخرى عظيمة لكاتب سوري بدوره، هي “خيوط الانطفاء” لأيمن مارديني، وما حوته خيوطها الرئيسة عن حكاية “سامي”، الذي يولد بجناحين ويمارس الطيران حتى يسقط في سبات رمزيّ طويل، ورواية أخرى هي “طيران” للمصري الموهوب محمد جمال، حيث يمتلك سكان الإسكندرية بغتة القدرة على الطيران (من دون أجنحة) داخل حدود المدينة.
لن أطيل في عقد مقارنات تفصيليّة كي لا أحيد عن قراءتي هذه، ولكن يمكنني القول أن الطيران والأجنحة (في النصوص الثلاثة) كانت رمزًا لحرية طارئة مآلها التقييد والكبت والحرمان، ولكنني في الوقت ذاته أقدر على تأكيد أن النصوص الثلاثة نصوص مختلفة من حيث البناء والتناول ومسارات القص وتطورها، فرواية أيمن مارديني رواية فلسفية وجودية بامتياز، تفند الخلق والوجود وتحاسب الأرض والسماء من خلال محاور عدة من ضمنها محور أساسيّ عن الشاب المجنّح الغارق في سبات طويل، وهو ما يتسق مع حبكتها الرئيسة حول مقبرة الأطفال النائمين وكتاب النائمين وما يسرباه من مضامين وإحالات مهمة، أما رواية طيران، فقد جاءت لترمّز حالة الارتخاء من بعد الانتشاء، والهبوط إلى أرض الواقع من بعد التحليق بجناحي أنبتتهما ثورة حشدناها بآمال لا تتسع لها أجندات الأوطان العربية ولو اجتمعت.
الروايتان مهمتان، وتدوران (كليًّا أو جزئيًّا) في سماء تتسع لمئات الأقلام وآلاف الحكايات، من هنا، فإن العاوون رواية مختلفة تحلق في آفاق مطروقة، لكنها رغم ذلك؛ رواية شديد الفرادة والتميز.

مكان ثابت وزمان مراوغ… ثلاث ومضات من حياة الشعوب
قرر إسلام أبو شكير أن يختزل حكايته من حيث المسرح الزماني إلى ثلاثة مشاهد تنتمي في تقنيتها إلى الكتابة المسرحية بصورة ما، بيد أنه على ذلك يحرك الزمن عبر شخصيته الرئيسة من دون الإشارة إلى روزنامة زمنيّة حقيقية، بحيث يستمر زمن الحكاية في مراوغة القارئ حتى يتوقف القارئ عن محاولة استنباطه فور أن يوقن أن وضع الحكاية بين قوسي التواريخ المحددة لن يغير شيئًا. في الوقت ذاته حرص أبو شكير على صبغ المكان بالشيوع والعمومية علاوة على جماده فوق المسرح السردي، فلو تحولت الرواية إلى عرض مسرحي ذات يوم، فسوف يشعر مهندس الديكور بالراحة حال قراءتها، لأن المكان ثابت، بينما سينتاب التوتر مسؤول الأزياء والماكيير، لأن الزمان يسري في أجساد الشخوص بحيث يقدر القارئ أن يستنتج تغير الزمان -فقط- عبر ملامح الأبطال. هكذا؛ لا نعرف في أي مكان على وجه الدقة تدور أحداث الحكاية، ولا في أي عام تجري وقائعها. وهذا أحد عناصر تفرّد هذا النص، إذ حرص الكاتب على تجريده من أطر الحروب والثورات والحقب الزمنية الملتهبة، فجاء نصّه مشرعًا أمام كل تأويل وأي تفسير.
شيّد إسلام أبو شكير -إذن- دارًا في قرية منسيّة، وجعل لها أربعة جدران لا يسقفها شيء، وبابًا مغلقًا، ثم منح المفتاح الوحيد؛ للقارئ.

تحقق الدهشة رغم بساطة الحكاية وشفافية الرمز
يولد طفل بجناحين، لا يمنح الطفل اسما فيلتصق به لقب “الصغير”، تتسع بذاك رقعة الشيوع التي يتقصّدها الكاتب منذ البداية، فالطفل المجنح هو الصغير ليس إلا، واللقب لا يفارقه وإن تناوبت عليه العقود واستبدل الزمن تحليقه برضوخ وقعود.
يولد الطفل بجناحين فيحلق ودم المخاض لم يزل ينزّ من عريه، يفكر والداه في كيفية حمايته من الضياع عقب الإمساك به، وقد كانت عاطفته الجنينية واجتذاب رائحة أمه/وطنه هي ما أوقعته في الفخ الأرضي الأول. نتابع في أعقاب ذلك تحليلاً كاشفًا للمنطق الأبوي الحاكم للبشرية منذ آلاف السنين، وفي الشرق المبتلى بقداسة لم يسع إليها على وجه الخصوص.
الحريّة خطر عظيم، وفي التحليق غير المسقوف بشروط الأبوية وعقدها الاجتماعي خطر أعظم، لذلك تتلخص أزمة الأبوين المفجوعين في صبي مجنّح في كيفيّة منعه من التحليق. ثم يبرع الكاتب هنا في تجسيد التضاد الصارخ في تصرفات الأبوين تجاه الصغير، فهما يرفضان وضعه داخل قفص أو ربطه بحبل لأنه ليس حيوانًا، إنما هو بشري طبيعي لا يفرق بينه وبين العوام إلى الأجنحة، ولكن اعترافًا ضمنيّا يسرّب للقارئ. قناعتيهما بأن خاصيّة القدرة على التحليق تشوّه لم يعتده الناس ولن يقبلوا به. الصغير إذن ليس حيوانًا، لكنه بذات القياس، ليس إنسانًا، لأن البشر لا يطيرون، فما العمل؟
قص ريش الصغير هو النصيحة التي يهمل بها الأبوان، وهي عملية دوريّة من الحتميّ أن تتم في مواقيت محددة، وإلا طار الصغير وبات عرضة لنهش النسور والصقور ورصاصات الصيادين الطائشة، وربما برق السماء. نصيحة أمينة ناجعة جاءتهما من شرطيّ عجوز، مقعد ومتقاعد، لا يموت!

بطل في الظل، وآخر في العلن
من الطبيعي أن يستنبط قارئ هذه الكلمات أن الصغير المجنح هو بطل الحكاية، وهو تصوّر صحيح إذا اعتبرنا أن بطل الحكاية هو محورها ومحرك أحداثها، لكن الشرطيّ المتقاعد حسب رأيي كان العنصر الروائي الأهم في هذه السردية الرمزيّة، فهو من اقترح طريقة منع الصغير من الطيران، وهو من يلتقى به الصغير في محطتي الرواية التاليتين، هو حافظ السر وحاضن الحقيقة المفاجئة في نهاية النص، الأخر الذي سأحاول تفادي الإفصاح عنه، قدر المستطاع.

انتقاء المحطات الزمنية
نشاهد الصغير من خلال الأقسام الثلاثة الرواية في ثلاث مراحل عمريّة، ونلاحظ في خلفية المشاهد حالة الجمود التي تسيطر على مفاصل العالم حسب النص، فالزمان يسري في جسد الصغير مقصوص الريش، بينما كل عناصر الحياة ثابتة متحجّرة كأن الزمان لا يعير هذه الأرض انتباهًا.
نشاهد الصغير رضيعًا يتحد أهل القرية لمراقبته والحول بينه وبين الطيران، ثم نشاهده صبيًّا في الرابعة عشر من عمره، خاضعًا تراوده أحلام التحليق وآمال استخدام جناحيه بحريٍة لم يجرّبها خارج حجرته، ثم رجلًا جاوز الخمسين من العمر، يذكر حكايته، ولكنه لم يعد يعرف شيئًا عن التحليق أو الطيران، ذلك لسبب بسيط، فالجناحان اللذان ضجر من روتين قص ريشهما الدوري ما عادا مشاركان في الحكاية، لأنه، وحسب قواعد علم التطوّر، فالعضو الذي لا يستخدم؛ يضمر، ويفنى!

ما وراء النص الظاهر
كم هو مدهش أن تحافظ الرواية على وتيرة التشويق فلا تفسخ عقد الدهشة مع القارئ رغم الإفصاح عن الرمز المنشود منذ الصفحات الأولى! هذه إيجابية اعتدتها في أدب أبو شكير ولابد أن أكرر تحيتي له على إتقانه الفائق في صياغة نصوصه الروائية القصيرة بهذا القدر من الاحترافية والإيمان بقلمه وبقيمة ما يخطه.
فُطر الإنسان حرّا، نزل إلى الأرض حرًّا رغم العقاب الإلهي الوارد في أسفار السماء، فعاش في طور بدائيّته حرًّا، ثم تطوّر العقل البشري فكان أول ما تفتق إليه ذهنه هو كيفية تقييد هذه الحرية، فكان المنطق البطريركي الأبوي خير مُشرّع لكبت البشر والعمل على تغذية حالة ضمورٍ تتوغل في روح الإنسان حتى تفقده شغف التحرر، وتقلل من قيمة الحرية التي ولد عليها.
هذا -حسب رأيي- ما أراد أبو شكير أن يقوله، فالمنطق الأبوي جعل آباءنا يقصون أجنحتنا فور ولادتنا، ثم كررنا نحن ونكرر ذات الأمر مع أبنائنا، مدفوعين بسطوة بطريركية باتت تسرح في جيناتنا، تعضدها الأعراف والتقاليد وما بلغنا من صحف السماء على ألسنة البشر، لقد آمنا جميعًا أن الطيران خطيئة لا تغتفر، وبات لفظ الحرية مقرونا بالانفلات وانعدام الأخلاق وارتكاب فواحش الأمور وأكثرها بشاعة وإغضابًا للسماء، لذلك ضمر جناحا الصغير فلم يشعر أنه منقوص من شيء، بل ربما شعر بحرية أكبر.
وخلال تلاوة أبو شكير لرسالته الثرية الموجزة، يكلف الشرطي المتقاعد بتجسيد السلطة الأبوية الممزوجة بالسلطة الأمنية الرسمية، وهما وجهان لعملة واحدة، ربما فقط أضافت مهنة الجار المتقاعد إلى الحكاية اتهاما للنظام الأمني بتأصيل حالة القمع والعمل على اجتثاث أجنحة الأمل بالتحرر مم صدر كل طفل يولد، لكن الأحداث لا تلبث أن تفصح عن أن الشرطي والمواطن كانا كلاهما ضحية لذات النهج، وإن تنوعت الطرائق، وتفاوتت حدة الألم.

عودة إلى التشابه والترادف
مرة أخرى، هذا النص لا يحاكي أي نص آخر سبق نشره، والنصوص القادمة لن تحاكيه، بل إن النصوص جميعها أراها -حسب رأيي- متممة ومكملة لبعضها، إذ أنها تتناول فكرة الحرية من خلال رمزية الطيران منهجًا لتمرير رسالات مختلفة، فلو كان الطيران لدى محمد جمال مرادفًا لحالة الثورة الحالمة قبل سقوطها في قفص الحقيقة وانتهاءً باندثارها، وإذا كان الطيران لدى أيمن مارديني سؤالًا وإجابة يمتزجان ليشكلا نقدًا لكبت الحريّات متخذان من السماء وعبثيّة أقدارها خصمًا غير معلنٍ، فإن الطيران لدى أبو شكير يحاكم الفطرة البشرية المستحدثة التي رسخ لها المنطق الأبوي، ويحاسب البشر على الانصياع للضمور…
هذه إذن فرصة مثاليّة، لا للتصارع العربي الأثير حول امتلاك الأفكار، بل للانفتاح على كل النصوص وتأويلها، لذا أدعو القارئ مجددًا لاستطلاع العوالم المكثفة لإسلام أبو شكير، ولقراءة رواية أيمن مارديني الرائعة التي تستحق مقروئيّة واسعة، ولمشاهدة طيران محمد جمال البديع…
ولو أقرّت النصوص الثلاثة -بدرجات متفاوتة- بتخاذل الإنسان العربيّ على وجه الخصوص، انطلاقًا من حقيقة أن العربيّ قد حرص ودأب منذ القدم على استخدام كل أعضائه وصيانتها، إلا جناحيه؛ فإن القارئ اليوم قد يتساءل وقتما يفرغ من قراءة رواية أبو شكير؛ أكان لدى العرب قديمًا أجنحة ضمرت نتيجةً عدم الاستخدام؟
الإجابة لدى القارئ، أما الكاتب، فقد انسحب من شرفات التفسير مذ غزل حكايته من خيوط الضباب، مموّهًا المكان والزمان وحاجبًا اسم الصغير والشرطي والبلد، تاركًا للقارئ حكاية ثرية، وطيف جناحين.

محمد سمير ندا

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ