الوجه الآخر للظل؛ صورة موازية لنشأة الحياة، وسفر مفقود من أسفار التكوين…

تعريف وتقديم ضروريان
من يتأمل سيرة ومسيرة الكاتب اللبناني الكبير رشيد الضعيف، يتوقف طويلًا أمام مساحة الحرية التي يمنحها هذا الكاتب لنفسه منذ أول عناق جمعه بالقلم، فالضعيف غير منشغلٍ بفكرة المشروع الأدبي، ولا يكرّس قلمه لتسليط الضوء على فكرة ما أو صورة ما، إنما يشعر المتابع للمُنتج الأدبي لرشيد الضعيف أنه يتبع هواه حينما يكتب، وحيثما تناديه نداهة الحكايات، فلا يحركه شيء غير الهواية الحرّة غير المقيّدة بأفكار مثل استشراف الأثر أو خرق المألوف أو منصات الجوائز. هكذا شق الضعيف لكتابته رافدًا مهمًا تفرّع من نهر الأدب وسار في طريق لا تُظهرها الخريطة، كوريدٍ ينفذ من جسد الكتابة ويمضي مستكشفًا ما هو كائن خارجه، دون أن يتوقف عن النبض.

الشاعر والروائي، المعنى واللا معنى
يمكن تقسيم مراحل الكتابة لدى الضعيف إلى عدة أطوار، في البدء كان طور الشاعر (وهو هو يلقي بظله على المرحلة الآنية)، فالضعيف استهل مشوار الكتابة بالشعر، واهتم به حدّ أنه أنجز أطروحة الدكتوراة الخاصة به في أشعار العظيم بدر شاكر السياب صاحب أنشودة المطر، في المرحلة التالية التي بدأت توازيًا مع النتاج الشعري، اتجه الأديب اللبناني الواعد وقتذاك إلى مضامير الرواية، فأنتج أكثر من عمل روائي واقعي رصد من خلاله آثار الحرب الأهلية بشكل تنساب فيه الحرب في ما وراء الأسطر من دون أن يتسرب ضجيجها ودخانها إلى الطبقة الظاهرة من السرديّات (روايتي “عزيزي السيد كواباتا” و”تقنيات البؤس” نموذجًا)، علاوة على اهتمامه الصريح والمستمر بتشريح الأسرة العربية في الزمن المعاصر، فكريًّا وحسيًّا، وما يستوعبه الجسد من إشارات الفكر والحس، ثم ما يترجمه الجسد من أفعال تعكس درجة استيعابه (تصطفل ميريل ستريب نموذجًا)؛ كان -ولم يزل- لدى الضعيف اهتمام بتناول الجنس سواء كعامل مؤثر في العلاقة، أو كنتاج معرفي مكتسب، أو كدليل على التطور والتحضر، كدليل على الوجود، وكرمز للقدرة على البقاء كمعادل حسي للحياة.
لم يخرج عن النسق السردي للضعيف في هذه المرحلة سوى روايتين حسب ما قرأت: رواية “أهل الظل” الصادرة في النصف الثاني من الثمانينيّات، وكذلك رواية “معبد ينجح في بغداد”؛ إذ تحمل هاتان الروايتان بصمة تفرّد وانشقاق عن النمط السائد والمعتمد لدى السيد رشيد مقارنة بكل ما كتبه قبلها وبعدها، حتى مرحلة الأميرة والخاتم، ففي هاتين الروايتين، الحافلتين بمقاطع السجع الغنائي والحسّ الشعري غُرست بذرة حكايات سوف ينتظر الضعيف ثلاثة عقود أخرى حتى يكتبها.
استمر رشيد الضعيف إذن في كتابته التي لا ينشغل كثيرًا بتأويلها وتصنيفها (ولعل هذا من أسباب تميّزه حسب رأيي)، فالكاتب اللبناني القدير يدّعي أنه يود لو يكتب رواية بلا معنى، رواية تتفادى تأويلات السياسة والفلسفة وتترك في وجدان القارئ متعة خالصة وإن لم يغب عنها المضمون، لكن ذاك المضمون متروك للقارئ كي يجده أو لا يجده! هو هنا يسرّب إلى قارئه منذ زمن بعيد انشغاله بالتراث الحكائي العربي متمثلا في ألف ليلة وكليلة ودمنة وكتب الجاحظ والأصفهاني وغيرها. في مرحلة تالية انشغل الضعيف بفكرة تعرّي الكاتب، وهو ما أُطلق عليه شخصيًّا مسمّى “كتابة الاستربتيز” التي وصلت بالفرنسية آني إرنو إلى منصة نوبل منذ أيام، فالرشيد من رواد هذا الأدب الذي يقدم الكاتب من خلاله سيرة ذاتية فاضحة وكاشفة لا تخضع لأي من عمليات التجميل أو الترقيع، ولعل لنا في روايات مثل ألواح وخطأ غير مقصود خير دليل عل ذلك، هذا من دون أن ننسى رواية عودة الألماني إلى رشده التي اصطاد فيها سيرة ألماني مثليّ عايشه ” يواخيم هلفر” فسرد حكايته بجرأة غير مسبوقة وقتذاك، ورواية “ليرنينج إنجليش” التي يظهر فيها تأثر بطلها “رشيد” بمرحلة فقدان الأب، وغيرها من الروايات التي يتسلل رشيد الضعيف إلى أوراقها بدرجات مختلفة من الوضوح، ودرجات متفاوتة من جرأة التعرّي.
ولفترة ما، اعتقدت أن هذا هو النهج الذي اعتمده رشيد الضعيف لنفسه وارتضى به لها، أعني كتابة السيرة الظاهرة والمستترة، ثيمات القلق والشقاق الأسري، وتشريح الطبقات الاجتماعية -مع جعل العائلة في بؤرة الحكاية كمكوّن رئيسيّ للمجتمع- ورصد آثار الحروب، سواءً حروب البارود أو حروب الفكر والشعار، علاوة على ما ذكرته عن رصد للجنس كأثر وكمؤثر، مع حس ساخر لا تغيب عنه المرارة. كان هذا اعتقادي حتى صدرت “الأمير والخاتم”.
لا أعرف كيف سيتلقى قطاع القراء -الذين ينتقدون أدب رشيد ويصفونه بالأدب المباشر والرتيب ذي اللغة البسيطة الخالية من الجمال- روايتيّ الأميرة والخاتم والوجه الآخر للظل؟ وكيف سيقيّمون عملين تُسرج فيهما مشاعل الخيال لتنقل القارئ فوق بساط شهرزاديّ إلى فضاءات لا نهائية، عملين تطل فيهما اللغة كبطل رئيسي؟ لديّ فضول حقيقي للتعرّف على انطباع هؤلاء، مع احترامي لاختلاف الآراء.

الضعيف وأدب الميثولوجيا؛ ميلاد جديد
أخيرًا، وبعد عقود من تشييد العوالم وخلق الشخوص ورصد الأثر، استسلم رشيد الضعيف لغواية نداهة الميثولوجيا، فتركها لتزيل آثار الحرب وتطمس صوت الأنا (السيرة) وتثبط فورة الحرب والجسد.
كم كان من الممتع لي كقارئ أن أشهد كاتبًا يقرر بمحض إرادته أن يولد من جديد! فرشيد الضعيف، المولود في عام 1945، قرر أن يجرّب دورة حياة الفراشة في عام 2019، فتخلص من شرانق كتابته جميعها، وحلق في فضاء الخيال فراشة جذبها الخيال ودوختها سرديّات التراث العربي الذي لم نقرأه حتى اليوم كما ينبغي. كان هذا إذن ميلاد جديد للضعيف، وبداية مرجلة سيؤرخ لها في أرشيف الأزمنة القادمة.

الوجه الآخر للظل، بين الميثولوجيا والمقدّسات
بعد الأميرة والخاتم، ترسّخ لدى الكاتب شعور بأنه قادر على تأسيس نهج أدبي معاصر ينتمي إلى ميثولوجيا التراث، ولأنه بطبيعته ميّال إلى التحرر وعدم الانشغال بالأثر قدر اهتمامه بالتجريب والمتعة الذاتية، فقد صوب قلمه شطر أراضٍ تتحاشى الغالبية المرور بها بعدما باتت صحفها رميمًا، فبرع وتجلّت قدراته لتخرج لنا كاتبًا شابًا في أبهى حلله اللغوية والبلاغية، يكتب أسفارًا ومزاميرًا كأنه رسول جاء من زمان سحيق.
في الأميرة والخاتم كان طيف المسيح حاضرًا بقوة في ثنايا الحكاية، وفي الوجه الآخر للظل، يرسم رشيد الضعيف صورة موازية لمريم العذراء، لكنه يضع فوق رأسها تاج الملكات، ثم يبذر في جوفها طفل من أثر غيمة، سحابة تتخفى في ثوب روح قدس، أو روح قدس تتجسد في هيئة غيبة، لن نعرف!
في أعقاب ذلك، وعلى أصداء ردود أفعال تتماس مع ” يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا”، تنطلق سهام الاستنكار والرفض من الملك وحاشيته، وتبتدئ رحلة تيه طويلة لا تنقذ فيها الملكة ابنها الأسطوري من خشبة الصليب ولا تسلمه إليها، فالنبي المنتظر هنا تائه لا تعرف الملكة موضعه وإن ظلت بينهما علاقة سمعيّة تربطهما برباط خفيّ طوال الوقت، الوليد في جعبته مفتاح الخلاص كما يليق بكل نبيّ تبعثه السماء، وإن كان الضعيف رحيمًا بصبيّيها حين لم يمنحه لقب النبي، مكتفيًا بأن يلبسه ثوب النبوة في طبقات غير معلنة من السرد، هكذا تنسرب الحكاية، مطاردة تستمر لعقدين من الزمن يتتبع فيها الملك الظالم أثر الملكة الطاهرة، وأثر الوليد ابن السماء الذي حمله الغيم مأسورًا لا سجّان له ولا قضبان من حوله، ثم ذرته الحياة بعيدًا عن أعين الكافة.

اللغة كمعطف للحكاية
هذا ما أردده دومًا، لا توجد ثمّة حكاية جميلة تستقر في رفوف الأدب من دون معطف لغوي يحفظ جسدها من عوامل التعرية والكشط والتغييب. ولأننا نتحدث عن كتابة ميثولوجيّة تستحق بجدارة أن تُدرج في كتاب الليالي العربية، فقد كانت اللغة على مستوى الصنف الأدبي المنتقى، بلاغة وشعريّة وعبارات مطرزة بالصور والمجازات لا يقدر على صفّها وتوظيفها وتكثيفها إلا كاتب قدير وأديب مكين، لذلك فإن اللغة هنا بطل رئيسي أحاط بالحكاية كما المحارة إذ تواري لؤلؤتها لتحميها من الضياع، ومن دون اللغة التي انتهجها الضعيف في هذا النص، وفي سابِقه، كان سيصبح لدينا حكايتين عاديتين، ربما يصنفان كأدب للناشئة.

النبي لا يصلب مرتين
إذا قبلنا بالمجاز الشائع -والمقبول لديّ- بأن للكاتب درجة من الربوبيّة يمارسها بين أوراقه، فقد أظهر رب الحكاية هنا من درجات الرحمة ما هو أكثر تواؤمًا مع صفات البشر.
تتواصل المطاردة كما أسلفت، السماء -تحاول- حماية الملكة، والملك ينكّل بأمها التي كانت أول من صدقها، والمخلوقات النورانية التي لا تُرى تجاهد بغية درء الخطر وطمس الأثر، ملائكة الضعيف لم تدخر جهدًا لكن طاقة الشر وشرر الغضب كانا أقوى مما تحتمل الأطياف، ولو شاءت السماء حماية الملكة ووليدها لما تركت الأخير ليتبخر وهي في معقل الغيم، ولما استطاع الملك أن يعذب أمها التي كانت أول من آمن بالحكاية (الرسالة).
وعبر فصول قصيرة مشوّقة تعجُّ بالترقّب والانتظار، نشاهد الحكاية من عينيّ الملكة، ونسمعها على لسان الملك، ونراها من منظور أفعى سحريّة تتقصّى الأثر وتكاد تصل إلى الرضيع بيد إنها تتوقّف عندما تميّز المعجزة فتؤمن بأسطورة الملكة الباحثة عن ولدها المفقود. يحشد الكاتب كمًا هائلًا من المشاهد السحريّة والأسطورية في فصول الحكاية المتعاقبة، أفعى تتكلم، وطيوف تحمي ملكة يجرّمها العالم ويجمع عل خيانتها، ملكة تتناوب على سكن جسد حيّ الذي لا يشيخ، وتمثال جامد يذرف الدموع (لاحظ المقاربة مع معجزات مريم العذراء)، دموع الابن على الجدة التي تنشأ في إثرها غابات كثيفة لا يُبصر آخرها الرائي، رجل هائل الحجم يعيش ألف عام كسائر قومه، وتماثيل تحمي ضريح الجدة، أخشاب لا تمسسها النار، ومغارة تنغلق على الملكة لحمايتها من المطاردين. الممتع هنا أن الكاتب يحشد كل هذه المشاهد دون أن يفرض على قارئه تأويلاً، حتى وإن كان بعضها سهل التأويل، وينسج المشاهد كلها بحيث تتسق ببراعة ووفاق تامٍ مع أصل الحكاية، لتحقق واحدًا من أهم مسببات الكتابة: المتعة الصافية التي لا يود القارئ أن تنتهي.
في نهاية الرواية مفاجآت لن أفصح عنها، هل يلتم الشمل؟ هل يؤمن الملك ببراءة زوجته؟ أم يقبض على الملكة ليصب على جسدها سياط عذاباته المستمرة؟ هل تتحقق النبوءة فيرتقي ابن الغيمة عرش السلطنة؟ أم ينال عقاب الخونة والخارجين على الحاكم؟ هل يتمدّد اخضرار الغابات الوليدة ليغطي قلوبًا غاضبة؟ أم تشتعل النار في الجميع؟ وإذا اشتعلت النار؛ أتكون بردًا وسلامًا على المظلومين، أم تغدو لجّة ثأر تأتي على أغصان السلام؟
لا أستطيع أن أقول إلا أن النبي لا يمكن أن يصلب مرتين، وأن نهاية هذه الحكاية الآسرة تكون بمثابة حجر أساس لنشأة الكون الذي نعرفه، وكأن الحكاية برمتها جرت قبل خلق هذا العالم في صورته التي عرفنها وتحاكى بها الأسلاف بين مقدس وموروث، فبانتهاء أسفار هذه الحكاية التي استلها أحدهم من الصفحات السابقة لسفر التكوين، تنتظم الشموس والكواكب والأقمار وتهدأ غضبة البحر والريح، وتبتدئ الحياة!

خاتمة
اعتقدتُ أن رشيد الضعيف يمارس التجريب حين كتب الأميرة والخاتم، وأعتقد أن قال ذلك في حوار ما إن لم تخنّي الذاكرة، وفي سرّي تنميت أن يتمادى في لعبته هذه، أن يتحول إلى طفل تستهويه ألعاب الخيال فتعزله عن قبح الواقع الذي آذته الكثير من آثاره ومثالبه، وها هو الضعيف يطلّ قويًّا راسخًا في عالمه الجديد، يضم حكاية أخرى إلى جرابه، ويجعلني أنتظر بكل الشغف حكايته الجديدة، وأتمنى أن تأتي عوالمها مشابهة لحكايتيه الأخيرتين، فهذه الميثولوجيا الثرية، والممتعة، لا تخلو حسب رأيي من أفكار فلسفية وأسئلة وجودية عميقة، حتى لو قال الكاتب أنه يريد أن يكتب حكاية تخلو من المعنى، فحكاياته وإن تدثرت بثوب الأسطورة تظل غنية بأفكارها وفلسفتها، مشرعة أمام كل تأويل.
كانت هذه حكاية أخرى تتقصّى أثر المخلّص، وتنشد الخلاص من ألغام الواقع المخفيّة في طيّات الحاضر، سرديّة تنبثق من جوف ماضٍ قلقلتْ ثوابت عُمُده، لترمم الزمن المضارع، وتشتل الأمل في مستقبلٍ يولد وقد استبدل تاريخه بآخرٍ أكثر رحمة؛ تاريخ لا يعرف الصلب، ولا تمسس صحفه النار إلا بردًا سلامًا.

شكرًا جزيلاً أستاذ رشيد
كل الامتنان والتقدير

محمد سمير ندا

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ