شاعر الحارة التي أراد أولادها قتله؛ لأنه غنّى الحكاية بصوت شجيّ مسموع!

محفوظ وأولاد حارتنا

شاعر الربابة الأول؛ عازف الحارة التي أراد أولادها قتله لأنه غنى الحكاية بصوت شجيّ مسموع.

{لا زيادة عمّا ذُكر، ولا تغيّر في الأثر، اللهم سوى الحرص على تسجيل انطباعي الموجز هذه المرة، عقب قرابة ١٥ سنة من القراءة الأولى}

نص أدبي مقدّس، كتابة كاشفة فضّاحة تحاكم البشرية بجرأةٍ كادت تودي بكاتبها إلى هلاكه، ذلك -فقط- لأن من قرأ لم يقدر على استيعاب مساحة المزج بين الترميز والتخييل، والقدرة الإعجازية على الإيهام، وخلق رابطة تؤهل الكاتب لعقد صفقة التواطؤ غير المعلن مع القارئ!

رواية تضع البشرية في قفص الاتهام، وتُقعد القارئ في مقاعد المتابعين، لتأخذه عقب ذلك في دواماتها حتى تختلط الأماكن، فلا تعرف نفسٌ موضعها، ولا يدرك جالسٌ حدود القضبان…

وأنا هنا لا أعني أن كاتب هذه الكلمات يمتك من القدرة على تفكيك النص وتحليله وتأويلة ما لا يمتلكه أي قارئ آخر، إنما -فقط- أجزم أن الأمر فقط متعلق بمساحة المرونة التي يتلقى بها القارئ نصًّا أدبيًّا، وقدرته على الفصل بين الثابت والمتخيّل، من دون غض البصر عن حقيقة ثابتة، مفادها أن كل حكاية تفيض من عين الخيال، تعكس ثمّة ظل لحقيقة ما، تنساب (في وضوح) فوق الأرض.

ملحمة تتشكّل من جدائل سردية متشابكة، بطريقة لا تطال الخالق لكنها لا تعارض قصة الخلق، ولا تجسد الأنبياء وإن حاكت ما بلغنا من سيرتهم عن أصحاب الثقات، لكنها حكاية عن احتكار فئة من الناس للخالق وللمرسلين لا لهدف سوى السلطة والقوة المطلقة والجبروت المستديم، وكيف تتساوى أمام تلك الغايات رؤس سدنة الحاكم مع كهّان السطوة ورافعي رايات الدم، تلك الرايات التي ترفرف فوق رؤوس الجهلاء رافعة اسم الخالق مُناصِرة مبعوث (بتكليف أو بقرار) على آخر، وواقع الأمر أن أحدًا من هؤلاء لم يكترث يومُا بالواقف/الخالق في صورته البشرية، قدر اهتمامه بإرثه/الوقف/المال/القوة.

ورواية أخرى موازية تتهادى في الخلفية عن شعراء الربابة، رُسل البشر إلى البشر، حملة عرش الحكاية، وكيف يقدر هؤلاء، البسطاء منهم والمتلونين، من خلال هذا الموروث الشفاهي السحري المتنقل بين شفاه الأجيال، على خلق الأسطورة وإلقاء ثوبها على من ناصَرهم فأحبوه، أو من قهرهم فأعزّوه.

لا يمكن حصر الصور والأنماط في هذه الملحمة إلا من خلال دراسات نقدية متخصصة تتسع لأوراق تجاوز ضعف صفحات الرواية، لكن الملفت هو أن الكاتب الذي حاكى بروايته حكاية الإنسان منذ الخلق، قد شارف في حرفيّته تخوم الكمال القصصيّ!

لا توجد شخصيّة منقوصة الدافع مهما كانت مساحتها، لا تحوّلات عرجاء في مسار الحكاية ومسيرات الشخوص من المبتدأ إلى المنتهى، وصف مشهديّ يعبر حدود الزمان والمكان ويتعدى “بجبروت” على الذاكرة الشخصية فلا تملك معارضته، مفردات وتعابير وتفاصيل، ألوان وروائح وأصوات، ألف صفة مختلفة لألف فجر، وألف أخرى لألف غروب.

مفردات مثل الغبار والدماء والصراخ والضحك والسُكر والسباب تتجاوز حدودها اللفظيّة إذ تثبُ إلى دماغ القارئ لتغزل اللون بالصوت والمزاج، وتصل بين الخيال والمكان، خاطفة قارئها إلى عوالمها، حتى يكاد يشعر أن حياته غدت مرهونة بكلمة “تمت”.

لا إمكانيّة لديّ ولا قدرة على تقييم محفوظ، أو على الإحاطة بكامل بنيانه السرديّ، خصوصًا في نصوص مثل أولاد حارتنا والثلاثية والحرافيش، فهذه كلها من مقدّسات الأدب العربي ونفائسه ودرره الباقية، لكنني أقدر على الادعاء بأن أجيالا سوف تأتي من بعدنا، عقب قرون من اليوم، لتضع ملاحم محفوظ الأدبية فوق أرفف “ألف ليلة وليلة”، مؤمنة بكونها السبيل الوحيد للهروب من فظاظة الواقع القادم إلى عبق التراث، بغية استبيان أصل الحكاية، وتقصّي أثر حروف كتبت بقلم ذي حبر خَلطَ بين عرق الضعفاء ودمع المقهورين ودم الفرقاء؛ قلمٌ عمّده صاحبه في تراب القاهرة المخضبة بالوجع، قبل أن يخطّ به أولى كلماته.

كلمة أخيرة أهمس بها في أذن اللاعنين لهذا النص، والرافضين لتداوله، والمتشدقين بافتراءات وتفاسير متشنجة لا تترك مساحة لإعمال العقل:

هذا النص لم يتطاول على الذات الإلهية، بكل بساطة لأن الذات الإلهية لا تموت.

هذا النص لا يمنح إبليسًا أي درجة من المظلومية، كما أن التوارد والتشابه بين قصص الأنبياء وشخوص مثل جبل ورفاعة وقاسم ومن قبلهم أدهم، لا ينتقص من قدر المرسلين بقدر ما يسمو بأثر الحكاية الجوّالة بين أفواه شعراء الربابة، ليمنحها بذلك قوة السيطرة على العقل وإن لم تثبتْ وقائعها وحار في شأنها المتخاصمون.

كل نص طيّع خاضع للتأويل، وكل تأويل عُرضة للصواب والخطأ، أما وقد قلت في هذه الملحمة ما أوردته هنا بكل إيجاز واختصار، فلا مانع من أن أعلن عن رفضي لشيطنة الرواية وكاتبها لأن قارئًا ما، أو قطاعًا من القرّاء، أوّلوها بطريقة تجعل من رمزيّتها نهجًا فجّا ساذجًا في مباشرته!

أفلم تسمع بقول محفوظك “آفة حارتنا النسيان”، أولم تبلغك حكمته حين قال في ذات النص “إن الخوف لا يؤجل الموت، لكنه يعطل الحياة”؟ أم تراك لم تزل وفيًّا لآفات حارتنا؟

فيا أيّها الرافض المتشنج، ويا أيّها المتحفظ الصموت، هنالك ألف رمز وألف حكاية تسبح في فضاء لا نهائي وراء ذلك الترميز الأكثر وضوحًا والأيسر تعقّبا، فلو أنت قررت الوقوف أمام التشابه البنيويّ في طبقات السرد الظاهرة وتجاهلت ما وراءها، صرت كمن يقف أسفل الغيم ليؤمن ألا نجوم في السماء، وحقّ لي أن أسرّ لك بأن تعيد القراءة، فربما شبّه لك ما لم تُجمع عليه بصائر القراء…

كانت هذه واحدة من دُرر شاعر الربابة المصري العظيم نجيب محفوظ، اقتحموا صفحاتها، مزّقوا أغشية الخوف وشرانق الغشاوة، اخفضوا نبابيت التعصّب الحنجوريّ، واقرأوا يأريحيّة وتجرّد وتلذّذ، لعلكم بذلك تتحرّرون.

#محمد_سمير_ندا

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ