أطفال منتصف الليل لسلمان رشدي: الراوي كمؤرخ، والحاكم كطامس للهوية…

غلافا الطبعتان الإنجليزيّة والعربيّة، وبوستر الفيلم المأخوذ عنها


في روايته الضخمة، الأقل شهرة بحكم متعصّبين اختزلوا مشوار هذا السارد البارع في “آيات شيطانيّة”، جرفتني الرواية الأهم للكاتب الهندي البريطاني سلمان رشدي “أطفال منتصف الليل” – الفائزة بجائزة المان بوكر عام 1981 – كأنها طوفان سردي سرمدي حملتني أمواجه وعبرت بي تاريخ الهند منذ استقلالها حتى نهاية السبعينيات، حتى تركتُ آخر صفحاتها وأنا لم أزل مصابًا بدوار البحر، ودوار آخر يجبرني على إعادة فحص التاريخ، واستجواب الزمن، في محاولة يائسة للعثور على الحقيقة؛ أية حقيقة؟ فهذه رواية بدأت، ولكنها لم تنتهِ لأنها لم تقف على حقيقة راسخة يمكن الوثوق بها!

السارد الأساسيّ هنا لا يقدم نفسه كموضع ثقة، فهو يحرص على أن يُذكّر القارئ بين الفينة والأخرى أنه ليس متأكدًا من حقيقة ما قاله، حدّ إنه قد يسرد الحكاية ثم يعود لينكرها في الفصل التالي مقرًّا بكذبه في سرد ما سبق أو في تحريفه، الراوي هنا إذن يمارس لعبتي الإرباك والإيهام ببراعة منقطعة النظير، إذ يقصّ على قارئه حكاية أسرة تمتد لثمانية عقود، ثم يتركه في هدوء مدركًا أن هذا القارئ لا يعرف أي الحكايات حقيقة جرت وقائعها بالفعل، وأيها متخيّل أفرزته قريحة رجل تعرّض لكل ألوان القهر والتشتت والإذلال.

كانت هذه مقدمة لحكاية عند الهند التي ولد الراوي “سليم سيناء” يوم استقلالها في سنة 1947، فأصبح بمثابة التوأم لوطنه وقد تشاركا يوم الميلاد. ولكن، كيف كانت العلاقة بين هذين التوأمين وقد ولدا عقب يوم واحد من استئصال قطعة حيّة من جسد الهند، هي باكستان؟

طوفان سردي، شلال كلمات تتدافع وتتدفق من قلم الراوي الوحيد للحكاية، والراوي مشوش كحال وطنه، حائر تحفل حياته بميلودراما بوليوود، لكن الميلودرامية هنا رمزيّة غنيّة يما تعكسه من أشكال وأنماط الصراع الذي يعصف ببطل الحكاية؛ سليم سيناء.

يقدم لنا الكاتب الجد “آدم عزيز” كجذر لشجر تمتد فروعها متشابكة بين الهند وباكستان، حياة الجد في كشمير كانت مليئة بالتفاصيل والصور السردية المبهرة، حكايته مع نسيم التي ستغدو زوجته، قبل أن تتحول في عين الأبناء والأحفاد إلى “الأم المبجلة” لاحقًا، كان من الممكن أن تنفصل كرواية في حد ذاتها! كذلك حكاية ابنتهما “ممتاز” مع “نادر خان”، وتحولها في ما بعد إلى “أمينة” زوجة “أحمد سيناء”، فهي رواية أخرى في حد ذاتها، بيد أن الكاتب اختار أن تكون تلك الروايات كلها مقدمة لحكايته عن أطفال منتصف الليل، وهم قرابة خمسمائة طفل ولدوا في منتصف ليلة الخامس عشر من أغسطس عام ٤٧، بالتزامن مع استقلال الهند. هكذا حوّل سلمان رشدي أبطاله في الثلث الأول من الرواية إلى كومبارس وضيوف شرف تنهض عليهم حكاية الحفيد، توأم الهند، سليم سيناء.

نعرف عبر سليم، الذي لا يمكن أن نمنحه كامل الثقة، أن أطفال منتصف الليل، توائم الهند المستقلة، يتميزون بقوى خارقة للطبيعة بصور وطرائق مختلفة، فمنهم من يسافر عبر الزمن، ومنهم الساحر، ومنعم من يتحول من ذكر إلى أنثى وقتما أراد، ومنهم عابري المرايا، ومنهم من يقدر على التجوال بين الأدمغة وقراءة الهواجس والنوايا في طور التحول إلى أفكار، وهذه القوة الأخيرة، كانت من حظ سليم سيناء، الذي استطاع بدوره أن يقيم داخل أسوار عقله مؤتمرًا سنويًا لأطفال منتصف الليل، وهكذا يتعارفون، ويعرف كل منهم الآخر ويقدر على محاورته عبر البث المتواصل في دماغ سليم.

نتتبع سيرة العائلة التي يرويها سليم على مسامع خليلته ف ينهاية السبعينيات، وحين يصبح الطفل شابا، ينفصل بحكايته وإن ظل أثر أفراد العائلة حاضرًا، لكن الحكاية وقتئذ تتمحور حول سليم، الانتقال من الهند إلى باكستان ثم العكس، قصة الحب المحرمة مع أخته، التي سرعان ما تزول حرمانيتها بعدما نتعرف على جريمة ممرضة تحب استبدال الأطفال في المستشفى التي ولد فيها سليم، وكيف صارت الممرضة ذاتها مربيته لاحقًا، خسائر سليم في الحرب الهندية الباكستانية التي قضت على معظم أهله، ثم مشاركته في الحرب كجندي باكستاني لمجرد كونه مسلم تصادف أنه عاش في باكستان وقتذاك، ورحلة التيه في الغابات والوديان وفقدان زملائه وذاكرته. هكذا تتفرط حبات العقد فتذبل ورود الحلم الخضراء وتبتدئ سلسلة لا تنتهي من المآسي التي يستنتج منها سليم أن كل أمهاته تخلين عنه، بداية من أم لم يعرفها، وأم سحقتها الحرب، وأم أكبر هي الهند، لم تنتبه يومًا لوجوده، بيد أن سليم يعتاد في ذات الوقت، حسب قوله، على إنجاب الآباء، فهو يجد أبًا في شخصيات كثيرة تؤنس وحدته وغربته، يختارونه هم، ولا يختارهم هو. فسليم الذي تلقى برقية تهنئة من نهرو عقب مولده بأسبوع بصفته طفل منتصف الليل الذي ولد في لحظة ولادة الهند المستقلة، لم يجد له أبا حقيقيًّا طوال حياته.

بطريقة ما، أو عبر وشاية ما، تعرف الدولة الهندية التي عاد إليها سليم منذ سنوات، وباتت تترأسها أرملة غير طروب هي أنديرا غاندي، والتي لا تمت بصلة قرابة للمهاتما غاندي بالمناسبة، بشأن أطفال منتصف الليل وقواهم الخارقة التي لم تُفد ولم تضر الهند في شيء، لكن أنديرا تسلط زبانيتها لاعتقال كل هؤلاء الشباب وقد قاربوا عامهم الثلاثين، بالطبع كان منهم من مات في الحرب، ومنهم قلة فرت ولم يُعثر عليها، لكن أكثر من أربعمائة منهم يقعون في الأسر، وأولهم سليم، الذي اعترف تحت التعذيب بأسماء أعضاء مؤتمره، فقاد الدولة إليهم.

بيد أن رغبة الدولة لم تكن الاستفادة من قدراتهم، إنما وجدت أن نزع خصوبتهم هو السبيل إلى الحفاظ على مناصبهم! هكذا تجرى العمليات الجراحية بدقة بحيث يخرج منها كل شاب أو فتاة وقد بات غير قادر على الإنجاب. هنا يتضح الإسقاط وتتجلى رمزية الحكاية، فهذا الوطن يعمل على إخصاء المتفوقين حتى لا يصبح لهم في السلطة موضع قدم، وهؤلاء ولدوا وعاشوا يتامى بصور متنوعة، الدولة هنا تطمس هوية المتميزين، تختلس من أعمارهم وأعمار أبنائهم وأحفادهم الذين وأدتهم في طور الفكرة، لتضيف تلك السنوات إلى زمن سلطتها ونفوذها.

هكذا تفقد فلتات الوطن قدرتها على الفعل والتغيير، فينعم السادة بمنصب ازليّ وسلطة لا تزول، ولا عزاء لفقراء تُزال بيوتهم وتحكم عليهم السلطة بتشرّد أبدي وفقر مضاعف.
يؤطر الكاتب حكايته بشطحات بوليووديّة ويزخرفها بتفاصيل تثري النص برمزيّتها الحاضرة على طول الخط السرديّ؛ سحرة ومروضي أفاعي، شاب يختفي في سلة، حب محرم، أمهات خائنات وآباء راضخون، هندي في خنادق الجيش الباكستاتي، قنابل لا تقرأ الهوية ولا تحدد جنسية الضحايا، أطفال بلا آباء، وفتاة مسلمة تلجأ إلى دير، خادم هارب وممرضة يطاردها شبح، وأطفال من ذوي القوى الخارقة، ومبصقة فضية تفقد خلودها تحت جنزير دبابة؛ بيد أن الأمر الأكثر قدرة على الإدهاش، كان فشل الإدارات الهندية المتعاقبة في إثبات الانتماء الصادق إلى الوطن، كأنهم لا يبصرون من هذه الأرض إلا ما يسمح به ثقب صغير في ملاءة بيضاء تتسع بما يكفي لتغطّي ثلاثمائة مليون هنديًّا، الثقب الذي يطل على العرش (تمامًا كحكاية آدم عزيز مع جسد نسيم)

سلمان رشدي كاتب بارع مولع بالتفاصيل، شلال سرديّ منهمر، يمتلك قدرة هائلة على الإلمام بأبسط التفاصيل، وغزل الأسطورة على نول الواقع ودمغها بصحائح التاريخ. هذه حكاية تمكّن من يقرأها أن يتعرف على تاريخ الهند منذ الاستقلال حتى نهاية السبعينيات، يسحب كاتبها القارئ فلا يفلته إلا عقب ستمائة وخمسين صفحة من السرد الحر المتدفق، ليتركه خائرًا يقف على الخط الحريريّ الفاصل بين الواقعيّ والمتخيّل، يطلب الاستزادة وينبش الصفحات المقروءة بحثًا عن المزيد من الشروح والتفاسير.

حكاية غنية بتفاصيلها، ثرية في مزجها بين الخيال الصرف والواقع اللصيق بالأرض، تروي حكاية وطن آثر معاملة أبناءه كمصدر خطورة، كأم قررت التنكر لأبنائها، وأخ انخرط في منافسة سرمديّة مع توائمه. حكاية عن طمس الهوية وإخفاء أثر العابرين. حكاية جيل أصابه وباء التفاؤل، وجيل لاحق ورث أثر الوباء فعطلته المآسي وفكرة التعصب لدى أتباع الديانات المختلفة فآثر الانسحاب، ثم جيل سليم سيناء الذي سدد كل الفواتير، وخرج من معركة غير متكافئة وقد خسر قدرته على الاستمرار كعضو حيّ في جسد هذا الوطن.
ثم يقف الكاتب على عتبة الخروج ليقدم لنا صورة جيل جديد جاء إلى العالم وقد آثر الصمت، طفل يعيش مع أب لم ينجبه، يرفض الكلام، وحين يقرر التفوه بأولى كلماته بعدما جاوز الثالثة، ينطق بعبارة تستقر في أذنيّ سليم على أنها “آبرا كادابرا”، وكأن هذا الجيل أدرك بعد ما يزيد على ثلاثة عقود من اليأس، ألا شيء يقدر على إنقاذ هذا الوطن سوى السحر!

بكل أسف، اختزل القارئ العربي مشوار سلمان رشدي في “آيات شيطانية” التي لم تكن يومًا من ضمن أفضل رواياته، وهذا ظلم بيّن، أما “أطفال منتصف الليل” فهي رواية أصابتني بدوار لم يغادرني حتى الآن.

عمل يستحق القراءة أكثر من مرة، لكاتب له أسلوب متفرّد منحه المكانة التي يستحقها في العالم بأسره، وبغض النظر عن إشكالية الرواية الأزمة، فإن سلمان رشدي يُجرّم في روايته هذه قضية الشقاق الطائفيّ، ويدين الأطراف كلها، من دون انحياز إلى فريق أو فصيل على حساب آخر.

رواية ملهِمة لكاتب عظيم.

محمد سمير ندا | ٢٩ سبتمبر ٢٠٢٢

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ