ظل ميّاس الذي نزع عن العالم ظله…بين الوجود والعدم وشبحيّة الحب.

لكم أذهلتني هذه الرواية!
فكرة مبتكرة وحبكة تلامس بذكائها مدارات العباقرة، يعرّي من خلالها ميّاس العالم عبر وضع الوجود في مواجهة مباشرة مع العدم، ليبارز السرّ العلن، فتنكشف في بؤرة الظلام، هناك في جوف الظل، كل الحقائق التي تتخفّى وراء ماديّة الجسد وزيف الظاهر، وكذب المُعلن.

يقدم الكاتب هنا مناظرة فلسفية برع في دمجها في بنية الرواية، وزخرف بها نسيج حكاية بطل تجاوزه زمان المادة فدهسه قطار الرأسمالية.

دميان لوبو، رجل يعمل كحرفيّ لا يتقن خلاف العمل اليدوي إلا التواري في ظلال العابرين، يفقد وظيفته فيشج الفصام رأسه، وتنسرب من ذاكرته المشحونة، تدريجيًّا، كل تراكمات طفولة لم تعرف السعادة، يقرر أن يقوم بانتقام بسيط من عالم لفظه كنطفة في الفراغ، لكن انتقامه الصغير، التافه في حقيقة الأمر، يجبره على الهروب، بيد أن هذا الهروب الذي يبتدئ في شكله المادي المتمثل في رجل يركض من أحد مشرفي الأمن في أحد الأسواق التجارية، يمتد ويتعاظم ويتحوّل إلى هروب أعظم وأعمق كثيرًا من المشهد الذي وصفته للتوّ.

بطريقة ما، يهرب البطل إلى الداخل، يختار الظلام عوضًا عن النور، يكتفي بأقل مساحة ممكنة من العالم، يخلق شخوصًا تؤانسه وتلبي له شهوة العظمة والاشتهار، ويشرع في مراقبة العالم؛ من الظل.

والعالم الذي يكتشفه لوبو يختزله كاتبنا في أسرة قوامها خمسة أفراد؛ زوج وزوجة وابنتهما، وأم الزوجة، وعشيقة الزوج. كان ذلك كافيًا بالنسبة إلى ميّاس ليطرح كل أفكاره ويعلق فوق سطوره العشرات من علامات الاستفهام.

وبينما يتحول لوبو إلى شبح يتجرد من مادية الجسد، ويراقب عن كثب أحوال الأسرة، مناقشًا أخبارها أولا بأول مع محاوريه المختلقين؛ المذيع سيرخيو أوكان، والصحفي إنياكي جابيلوندو، يُمرر أوجاعه وأسراره كأنه يخلق مطهره الخاص داخل عقله، ليتحرر من علاقة سيئة مع أبوين لا يجمعه بهما ثمّة ود، وعلاقة سريّة آثمة مع أخته المتبناه.

وكلما تخفف دميان لوبو مما انطبع في ذاكرته من المؤرقات، تقدم درجة إضافية صوب تحقيق رغبته في التلاشي، كل ورقة توت تسقط عن سرّ مخبوء أو وجع مكتوم، تسقط معها قطعة من وجوده المادي، فيدنو من بلوغ الحالة الشبحيّة.
وبتوالي نوبات المراقبة، وإصراره على رعاية هذه الأسرة من مخبأه الآمن، ثم نوبات حراسته للزوجة “لوثيا” على وجه الخصوص، يذكرنا ميّاس بأهمية التصدير الذي استهل به روايته، وهو مقولة الكاتب الأميركي “ديفيد فوستر والاس”: قصص الحب كلها ليست إلا قصص أشباح!
الحب هنا -إذن- متهم أساسي في محاورات الرواية الفلسفية، فحب دميان لأبويه شبحيّ، وحب أخته له شبحيّ، وحب الزوج للوثيا شبحيّ، فهل يعني هذا أن الحب عارض مؤقت يعبرنا كطيف شبح، أم أن الأشباح وحدها قادرة على الحب؟
أترك الإجابة للقارئ…

يمارس لوبو دور الشبح في عوالم افتراضية (ملتزمًا بالبقاء في الظل)، ويثور على محاوريه الوهميين من آن لآخر، يتبادل ثلاثتهم الهزائم والانتصارات في جولات متتالية من الملاكمة الفلسفية إن جاز التعبير، حتى يعي القارئ، أو يعتقد، أو يشك، أن لوبو، الذي انتصر للعدمية على كل أشكال الوجود، قد تحول بالفعل إلى شبح؛ شبح وقع في الحب!
وعندئذ فقط، ربما يغادر الشبح مكمنه، لأنه بات لأول مرة؛ بلا ظل.
فهل انتصر دميان على العالم؟ هل نفذ انتقامه؟ أم تراه تمادى في قبول الهزيمة حتى تلاشى من عالم لم يعتد ملاحظته؟

أغرب ما في هذه الرواية – بخلاف ما ذكرته عن بكارة الفكرة، وفلسفتها العميقة متعدد الفروع، وتقنيتها المبتكرة، وبنائها السردي المحكم – هو تلك القدرة المدهشة لكاتبها على المزاوجة بين الواقع والخيال، بحيث يحار القارئ بين السطور ويرتبك، فكل هذا الخيال يظل قابلاً للطيّ بين قوسي الواقع، وكل هذه الوقائع تظل أشبه بالخيال!

ترجمة سلسة ومريحة للقارئ، بطبيعة الحال لا يمكن تقييم الترجمة من دون قراءة النص بلغته الأصلية، لكن يمكنني الجزم بأن الكاتب والمترجم المصري أحمد عبد اللطيف كان عند مستوى النص، فترجمه بلغة تناسب الحدث، واستخدم مفردات تخلو من الدسم اللغوي العربي الذي يستخدمه كثير من المترجمين العرب، باختصار؛ كانت الترجمة كأنسب ما يكون لهذا النص.

عمل شديد التفرد والخصوصية، أنصح به مريدي الأدب الجاد، الذي يناقش أصعب المعضلات الإنسانية بأبسط طريقة ممكنة.

محمد سمير ندا

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ