ورطات خافيير مارياس التي لا تنتهي… أن تتحمّل ثقل الحقيقة، أو أن تحيا هانئًا حين لا تعرف…



قلب أبيض جدًا، عبارة شكسبيريّة اختارها مارياس عنوانًا لروايته هذه، والحقيقة أن هذه هي قراءتي الثالثة لمارياس بعد غراميات، وفكّر فيّ غدًا أثناء المعركة، وفي كل مرة، كنت أقول لنفسي: هذا آخر عمل أقرأه لهذا الرجل!

يحرص مارياس (١٩٥١-٢٠٢٢) دائمًا على وضع القارئ في حالة من الارتباك والحيرة، سواء في ما يخصص الإمساك بخيوطه السردية وتتبّع مسار الحكاية، أو حتى حيال تقييمه لما يقرأ، فقد كدت أطوي الرواية قرب منتصفها، لكن الفضول الذي لا يخبو في كتابة مارياس، وإن بهت أثره في بعض أوراق النص، يظل قادرًا على جذبي، وعلى كسر حالة الرتابة التي يفرضها أسلوب مياس المفرط في الإسهاب والتشظي، وأنا هنا لا أعني التشظي الزمني في ترتيب الأحداث، إنما أخص بالذكر حالات الشرود التي تنتاب أبطال مارياس دائمًا، فهم يحيدون عن مسار السرد بالاستغراق في تأمل تفاصيل عابرة واستعادة ذات الأحداث المرة تلو الأخرى، كل مرة من منظور مغاير لكنه صالح للإسقاط على اللحظة الحالية. فعلى سبيل المثال، يستطيع مارياس أن يلهب حماسك بوصوله المتأخر إلى نقطة الذروة في الحكاية، لكن الحقيقة التي تود الحصول عليها – في كل رواياته – قد تروى عليك في ٣٠ صفحة كاملة على رغم من كونها قابلة للقص في عشرة أسطر لا أكثر! ومع ذلك؛ تبلغ – كقارئ – ذروة التوتر وتمضي بأعصاب عارية وعيون منهكة فوق هضاب من السرد المتراوحة الارتفاعات، بكل تشعّباتها وتشتّتها المقصود.

باختصار شديد، رسالة الحكاية هنا، على كثرة صفحاتها التي بلغت ٣٤٠ صفحة، تم تمريرها منذ السطر المرسوم على الغلاف، أي من خلال العنوان ذاته، قلب أبيض جدًا، تلك العبارة التي وردت على لسان الليدي ماكبث بعد قتل ماكبث للملك دانكن، والقلب الأبيض هنا قُصد به القلب الضعيف غير القادر على مواجهة الحقيقة والتعايش معها، هكذا يؤطر مارياس رسالته بخلق تضاد بين المعرفة والطمأنينة، تذاد يبدأ مكسوًّا بالضباب لكنه سرعان ما ينجلي ويتبلور عبر مشاهدات خوان المتفرقة وعطشه الدائم لتصور تتمة الحكايات المبتورة، أي الظمأ اللانهائي إلى المعرفة، وإلى الحقيقة.

كعادة روايات مارياس، على الأقل ما قرأت منها، هناك دائمًا حادثة أو جريمة، ولكن تلك الحوادث والجرائم لم تكوّن يومًا حجر الأساس لرواية بوليسيّة، ليس في كتابات مارياس. كانت لدينا جريمة القتل في “غراميات”، وحادث وفاة مارتا بين ذراعي عشيقها فيكتور في “فكر فيّ غدًا أثناء المعركة”، وحادث انتحار خالة الراوي “تيريزا” في روايتنا هذه، وهكذا يخلق كل حادث أثرًا، ويستدعي البحث عن الحقيقة، حتى لو كانت أربعين سنة مضت على زمن انتحار الخالة، وحتى لو كان خوان، دائم التعطش لتقصّي نهايات الحكايات العابرة، لم بكن يود أن يعرف تاريخ أبيه، ونهايات زوجتين توفيتا قبل اقترانه بأمه، خصوصًا وقد توفيت الزوجتان، وقد ماتت الثانية، التي هي خالة الراوي، منتحرة عقب إجازة شهر العسل مع أبيه.

وعقب سقوط أطنان من السرد الضروري (وربما غير الضروري) على دماغ القارئ، وتشابك الصور والخيانات والنهايات أمام عينيه، وتوريطه في تتبع الخيط الرئيس للحكاية، والمتمثّل في كشف الستار عن حقيقة عارية ترقد خلف أربعة عقود من الكتمان، تتشكّل ملامح الراوي ويتبلور خوفه المقيم من الحقيقة، كأن في معرفتها تلطيخ لبياض قلبه الذي لم يكن بالنصاعة التي قد يتصورها القارئ، فخوان رجل متشكك، قادر على الانخراط في أعمال تعارض مبادئه على بساطتها، لا يمتلك الحد اللازم من الأمان الشخصي، ولا يجد طمأنينة ترسّخ قدميه فوق أرض هذا العالم، حتى قبل أن يقذف به مارياس في الصفحات الأولى ليقف على عتبة الحقيقة، حين يسرّب له -وللقارئ في ذات الوقت- أن موت خالته التي كانت زوجةً لأبيه قبل أمه، كان من خلال الانتحار.

الحقيقة الكاملة وحش قاسٍ، في تفادي مقابلته صونٌ للبراءة، وحماية للقلب من لطخات الواقع المدنّس، هذا ما يقوله مارياس، لكن، لا يفوّته التأكيد على ميول الإنسان الفطرية إلى المعرفة، وخطيئة الفضول القتّالة. فخوان لا يود أن يعرف من أبيه الحقيقة، لكنه لا يقدر على كبح أسئلته لآخرين عرفوا أبيه وسمعوا الحكاية، ولمّا تيقّن أن أحدًا غير أبيه لا يمتلك القصة الكاملة، يوكل المهمة إلى زوجته لويزا، التي كانت أكثر منه فضولاً. لا يطلب خوان منها صراحة أن تأتيه بالحقيقة، لكنها يمنحها حق المعرفة بالوكالة، وقتما كان قادرًا على ثنيها عن الأمر.
لم يكن خوان قاتلاً كماكبث، ولم تكن لويزا محرّضة ومبرّرة كالليدي ماكبث، لكن مارياس، وقد رادف الحقيقة بالموت، والمعرفة بالدنس، ينهي روايته هذه وقد رسم للويزا خطًا حياتيًّا لا ينتحي بعيدًا عن مسار الليدي ماكبث، والأمر ذاته لخوان، فكلاهما بات أكثر هشاشة بعد معرفة القصة الحقيقية، وكلاهما سيعيش مطاردًا بأشباح الموتى وطيف الموت نفسه، حد أنه لن يغدو مستغربًا لو طلب أحدهما الموت بنفسه. سيتركنا مارياس أمام غابة من الطرق المتشعّبة، في آخر كل منها نهاية مختلفة واردة الحدوث، فهل تستمر علاقة خوان ولويزا؟ هل تختلف نظرتها له ولأبيه؟ على تقدر أن تعينه على حمل إرث الحقيقة؟ هل تهجره؟ أم تكون كما الليدي ماكبث فتقول لخوان بصلابة وبأس “لنعد إلى حجرتنا وحسبنا شيء من الماء، لنغسل ما كان بيننا”؟

ورطة أخرى يضعني فيها مارياس، إيقاع مرتبك يتسق مع ما أراد الكاتب خلقه حرفيًّا، فخ حقيقيّ محكم، أسقطتُ نفسي في شراكه طواعية، إذ لا بمكن أن أدّعي أنني خُدعت هذه المرة أيضًا، فهكذا هو أدب مارياس؛ خيط قوي جاذب، وصخب سردي هائل، إرباك وتشتيت متعمّدان للقارئ كأنه يجري عليه اختبارًا ما، حكايات كثيرة تجمعها خيوط متينة قد لا يدركها القارئ إلا قرب النهايات، لغة جذلة أحسن الكاتب تطويعها واستفاد كثيرًا من استخدام صوت واحد للراوي.
وفي النهاية، مرة أخرى: كانت هذه الرواية شديدة الشبه بوجبة شهية، لكنها دسمة للغاية، ممتعة، لكنها عسيرة الهضم كورطة!
هل سأقرأ مرة أخرى لخافيير مارياس بعد كل هذا الجهد الذي يفرضه عليّ في كل مرة؟
بكل تأكيد نعم! بل أعتقد أنني سأشرع في قراءة روايته أوكسفورد قريبا!
“أوكسفورد: سيرة روائية شبه ذاتية لمارياس عن سنوات دراسته في أوكسفورد، وعنوانها الأصليّ: كل الأرواح”

فصعوبة روايات مارياس لا تنبع من هشاشة البناء السردي، أو عدم القدرة على الإمساك بالخيوط الرئيسة، أو فتور الهمّة في إحكام الحبكة، أو ضبط تطوّرات الشخوص ومسارات القص، إنما هي رغبته الدائمة في بلبلة عقل القارئ وإرباكه، ووضعه في بؤرة الإعصار، حتى يجعل من قراءة نصوصه أمرًأ شبيهًا بدفع صخرة سيزيف، لكن صخرة مارياس، أو رواياته، لا تصعد طريق العذاب الأبديّ التي فرضتها الآلهة على سيزيف، إنما تصعد وتهبط في طريق وعرة، لا تهدر عمر القارئ، لكنها تُنهكه.

الترجمة كانت جيّدة جدًّا، إذ استطاع المترجم نقل بلاغة النص وخصائصه اللغويّة شديدة الثراء بحرفيّة تستحق الإشادة.

رواية رائعة، مؤثرة، لكنها موجهة لأصحاب الصبر الجميل، والجهاز العصبي القوي، وهواة الأدب الإسباني، واللغة الجميلة، والبعد الفلسفي، ومحبّي مارياس، والمغفلين الذين يستعذبون الوقوع في ذات الشرك كل مرة، مثل كاتب هذه الكلمات 😊

#محمد_سمير_ندا

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ