قطعة أدبية فريدة…

هكذا هو الأدب الحقيقي…

محيّر ومربك في مرحلة التعارف، ثم واضح وممتع في بساطته بعدما تتوطّد علاقة القارئ به!

مشرط كمال الرياحي يفتح بطن التاريخ ويجسر المسافة بينه وبين الحاضر عبر خلق مسارات موازية متخيّلة، لكنه يذهلك بقدرته على خلق أواصر الترابط ونقاط التماس بين هذا المزيج الساحر، وسلسلة من الحوادث عرفتها أغلب البلدان العربية خلال العقد الأول من هذه الألفيّة، حادثة المشرط الذي شق أجساد الفتيات ومؤخراتهن مدفوعًا بمرجعيّات مختلّة الأسس، دينيًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا.

لكن الرواية هنا لا تبحث عن الجاني، إنما تستخدم ذات المشرط لإجراء جراحة عاجلة للمجتمع التونسي/العربي، جراحة أرى أنها لم تستهدف استئصال الأورام وإزالة الأدران، لكنها نجحت في الإفصاح عن وجود العلل، لعل أحدًا ما يهتم بعلاجها، فهل وجدت الأورام من يستأصلها حتى اليوم؟

الشخصيات الرئيسة هنا مهزومة بالفطرة، بو لحية هو ابن الخيال الشعبي البسيط، ابن الرجل الذي ترك بيته للثعبان إيمانًا بخرافات استحالت حقيقة دكت بيت الطفولة بين غمضة عين وانتباهتها، كاتب مهووس بمحاورات متخيّلة مع تمثال ابن خلدون، يختلس القصص من محيطه بعين لاقطة، لكنه لا يتخطّى كونه مُحرّرًا ومُصحّحًا متوسط القيمة لدى صحيفة صفراء. أما النيقرو، فهو عامل بسيط لم ينجح في اجتياز امتحان البكالوريا فاستسلم لمصيره كحارس في مصنع معكرونة، تخلّص من اسمه الأول لأنه لم يصب من حظه نصيبًا، تحوّل سعيد، أسمر البشرة، إلى نيقرو بمحض إرادته، وجعل يهيم في شوارع المدينة بلا مأوى، حتى منحه بو لحية المأوى، فتحول إلى قارئ نهم، يحاول الانصهار في الحياة، لكن مشرطًا آخر يعطّله، فيشج وجهه، ويسلبه امرأة الروتند بعدما غفر لها ما لم تغفره السماء.

ربما ترك المشرط ندوبًا لا تندمل في أجساد النسوة، وعلى وجه سعيد، لكن كمال الرياحي يقول، مع أسانيد تاريخية تذكّرنا بشغف العرب الأزلي بالملموس والمحسوس، أننا كلنا -شعوبًا وقبائل- نحمل ندوبًا تركها المشرط ذاته بطرائق مختلفة.

أحببتُ كثيرًا محاورات ابن خلدون ذات الحس الريّاحي الحداثيّ، وتعلّقت بشخصية سعاد امرأة الروتند، العاهرة المثقفة، وتعاطفتُ مع الفتى زوزو على الرغم من حيازته لنجاح واشتهار لن يصيبه أغلبنا، أحببت تقنيّة مقاطعة السرد بقصاصات الصحف ووكالات الأنباء، صدّقت الخرافات وتذكّرت الواقع المنسيّ في أشتية سبقت ربيع العرب، وغدوت كلما خرجت إلى شرفتي، أشبك كفيّ فوق رأسي حتى لا ينقرها طائر المخّاخ…

قراءة أولى لكمال الرياحي، ممتعة، تشجعني على قراءة جميع أعماله. وإن كانت المشرط ممنوعة في اغلب الدول العربية…

#محمد_سمير_ندا

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ