ماذا يفعل الأصمُّ بين شعوب تعتنق الصمت مذهبًا؟

لا أعرف كيف لم تنل هذه الرواية ما تستحقه على الصعيدين النقديّ والقرائيّ؟


هذه معزوفة نثريّة بديعة، تتداعى بين أوراقها خواطر وأفكار وهلاوس تنهض عليها حكاية بطلها الصمت! صمت فعّالٌ ومؤثّرٌ يستجوب حواس القرّاء ويشكّك في صدق حواسهم!

تنويعات بين المونولوج الذاتي والرسائل أحاديّة الطرف، فصاميّة المعنى، وحضور غامض لراوٍ ضبابي لا يتوجّب الوثوق في إحاطته بالحقيقة، فهو لم يكُ عليمًا بقدر ما بدا أشبه بعينٍ سحريّةٍ تراقب الشخوص وتدحض تدوينهم، كأن لدينا ساردان يعارض أحدهما رواية الآخر، وحفنة من الرسائل تنهمر لتعرّي اللاوعي أمام الوعي، والعكس…

والصمت بطل الرواية هو صوتها الصخّاب، براعة سرديّة وتقنيّة استطاع من خلالها ريبر يوسف أن ينقل إلى عقلي طاقة صوتيّة هائلة تحفل بكل صنوف الضوضاء ومسبّباتها، من خرير الماء إلى دوي القصف. نجح الكاتب في خلق حالة من التوحّد بين القارئ وبطله منقوص الحواس، فأسدل خيمة من السكون على رأسي إبان القراءة، وجعلني أستمع تدريجيًّا إلى ما قد يدور في دماغ شابٍ لم يسمع اسمه يومًا، ولم يميّز الناس إلا بالترقيم (دلالة قوية وإسقاط رمزيّ بارع)…

عمد الكاتب إلى إحاطة مرويّته بهالات من الضباب الشفيف، المكان بعيد عن العاصمة، لكنه ككل عناصر وشخوص الرواية من دون اسم، والزمان زمان حرب، لكن الحروب متنوّعة مصبوغة بالتكرار، الصامت هو (ي)، والآخر الشبحيّ هو (ر)، (الحرفان ينتميان بصورة واضحة إلى الكاتب)، الأم رحلت وبقيت طيفًا لا يغيب، أما الأب فهو مترنّح بين الوجود والعدم، بين واقعيّة القبور ورمزيّة الخلود، موجود وغير موجود، لكنه يظل الدرع الصامد أمام عنصريّة أمم لا تأبه بمن لا صوت له، والحامي الوحيد لولدٍ أصمّ. هو الأرمل الذي يفتدي وحيده جاعلاً من عمره قربانًا، وهو الذي لا يتوانى عن إراقة حواسه على مذبح الصمت إيمانًا بأنه كأبٍ؛ لا يحقّ له أن يتمتّع بما حرُم منه وحيده.
والعلاقة التي تجمع (ي) بأبيه في هذه النص شديدة التفرّد والخصوصيّة، وهي أحد عناصر القوة في هذه الرواية، جرعة مكثفة من المشاعر لا تنزلق إلى نمطيّة البكائيّات والمراثي العربيّة ودراما التعاطف. ولدٌ وأبوه يتبادلان أدوارهما طوال الوقت، كلاهما حصن الآخر وملاذه، وكلاهما لا يؤرقه شيئٌ قدر ما يؤرقه مصير الآخر…

لم أقرأ للكاتب من قبل، والحقيقة أنني اقتنيت الرواية ثقة في ما تنشره دار ممدوح عدوان، لكنني توقعت منذ السطور الأولى أن ريبر يوسف شاعرٌ قبل أن يكون روائيًّا؛ تقنيّة الكتابة، وتقسيم المقاطع واختزالها وتفاوت مساحتها، وتحرّرها من قوانين السرد التصاعديّ؛ جعلها كتابة أشبه بقصدة نثرية طويلة بلغت من الثراء ما يؤهلها لاكتساب صفة الرواية المكتملة العناصر.

ماذا يفعل الأصمُّ بين شعوب تعتنق الصمت مذهبًا؟ وماذا لو قرّر الصامت أن يصرخ؟ وإلى أين تصل الصرخة لو قُيّدت أصداؤها بطيوف الماضي ووصاية المنطق الأبويّ؟ ربما كان هذا ما تطرحه الحكاية، وما أراد الكاتب أن يستجوب القارئ من خلاله؛ فإلام يستقر المآل بمن حٌرم من السمع والكلام، وبمن آثر الصمت طواعية؟ كيف يمكن أن يواصل العربيّ الحياة وقد سلبت منه بعض حواسه فبات عاجزًا عن التفاعل مكبّل التعبير؟

ملحوظة: تطريز الحكاية بنوتة موسيقية وبضع صور تعكس ما يودّ الأصم نقله من خانة الوعي إلى اللاوعي -عبر رسائل ربما لم تكتب من الأساس- كان أمرًا في غاية الرقة على عمق دلالته وكآبة المحتوى، وما قد يتركه في نفس القارئ من تحسّر وحزَن.

ريبر يوسف كاتب مهموم بنقل أصوات كل من كمم الحاكم أو طمس القدر صوته، مشحون بجرعات مكثّفة من الشجن المتّسق مع اليوميّات العربيّة.
ها هو شاعر سوريّ آخر يبرع في نظم الأبيات على نول الرواية…

فتحيّة امتنان وتقدير لريبر يوسف، ولدار ممدوح عدوان 🌹

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ