علامة الاستفهام التي علقها بن هدوقة على جِيد الوطن؛ متى يخرج الطيّب من سجون الجزائر؟

اليوم، كنت على موعد مع اكتشاف كاتب جزائري عظيم هو عبد الحميد بن هدوقة (١٩٢٥-١٩٩٦)، والفضل يعود لنادي قراءة صُنّاع الحرف والقائمين عليه.
وبن هدوقة لمن لا يعرفه كما كان حالي منذ أيام، هو صاحب أول رواية جزائرية تصدر باللغة العربية، وهي رواية(ريح الجنوب) الصادرة عام ١٩٧١، أما روايته هذه؛ الجازية والدراويش، روايته ما قبل الأخيرة، فهي بمثابة درس مجاني في فن الكتابة الروائية، والقدرة المبهرة على التكثيف وتطريز كمّ هائل من الرموز في نسيج الشخصيّات الروائيّة من دون الوقوع في أفخاخ المباشرة والتقريريّة والتكرار.

تتناول الرواية معضلة الوقوف على حافة المستقبل بينما الوطن مكبّل بأصفاد الموروثات والخرافات المثبتة بأوتاد الماضي. هي أزمة العبور التي عانت – ولم تزل تعاني – منها الأوطان العربية بعد حركات التحرر والثورات ضد الطغيان، وجلباب الحكاية فضفاض يتسع لكل الإسقاطات الزمانيّة والمكانيّة، وعلى الرغم من اعتماد تقنية المراوحة الزمنية بين خطّين زمنيين متوازيين، فقد كان المكان أحد أبطال الرواية بكل ألوان الرمزية التي لم تغب عن سطور بن هدوقة، كما أن الفصل بين الأزمنة من خلال المراوحة الزمنية كان ينهض على المكان، فالزمن داخل السجن مخالف للزمن خارج القضبان وان توحّدت الحكاية وتداخلت الشخوص في وعاء طيّاتها، وكما جاء على لسان أحد الشخوص، فالمستقبل بين جدران السجن يتمثل في إمعان النظر في الماضي.

المكان هنا له حضور طاغٍ، بكل مفرداته ومكوّناته، الجبل والصفصاف والنهر والجرف والسيل والحمائم تعرفه، وتُعرّف به، هي قرية تشبه كل قرية، لكنها تقف شامخة عصيّة على الاستبدال، مقاومة لكل المساعي التي تهدف إلى نقلها أو إعادة بنائها، هناك حيث لا نهر، ولا زردة، ولا صفصاف.
هي قرية عمرها عمر الكون، قائمة منذ الأبد وباقية إلى الأبد، ولعل رمزية الحضور المتكرر للرقم سبعة، جاءت لتضفر المكان بكل العقائد الدينية وقصص الخلق المتشعبة في عروق التراث. كذلك؛ فقد جاء استحضار عبارات من رواية “الحمار الذهبي” لأبوليوس، ضمن محاورات الرواية، ليعمق الإيحاء بأن الحكاية أزلية غائصة في رحم الزمن.

والجازية امرأة لها قداسة وطن، فهي ابنة مجاهد قتله الاستعمار بألف رصاصة، وقُبر في حناجر الطير. هي كعبة الغواية وقِبلة النُظّار، ومن حولها يتنافس المتصارعون، وبطبيعة الحال فإن أطراف الصراع ثابتة لا يزحزحها الزمن، حتى لو تقلبت السنون، وتبدلت الأوجه، وناءت السماء بأثقالها فأرسلت السيل من بعد الطوفان ليروّع قرية تقع على مقربة من السماء.
الفساد، والدراويش، والمجاهدين، والشباب الحالم بالتغيير على أجنحة الشيوعية في زمن الكتابة، كلها أطراف اتفقت على محاصرة الجازية، أو الجزائر، التي تؤمن بنبوءة عرافة أخبرتها أن حلالها لن يكون إلا بعد حرام ودماء تُسال، فتظل متشبثة بهالتها النورانية عازفة عن مخالطة الطامعين فيها والمتنافسين عليها، فتتنازل عن بريّتها وتكبت جموحها، حتى تؤثر أن تنتظر “الطيب”، الشاب الحائر الصفريّ، الذي استقر به الحال في غياهب السجن.

رواية شُيّدت على معمار قويّ راسخ يجمع بين أضداد قلّما تجتمع نظريّا، لكنها تزيح أستارها فتكشف للقارئ كيف أن الواقع يزخر بكل هذه النقائض وإن لم ينتبه. المعمار سرديّ هنا يزاوج بين الواقع والخرافة، الثورة والرضوخ، الوطنية والفساد، الثبات والاهتزاز، الانتماء والفساد، الحب والكراهية.

غنيّة هذه الرواية بشخوصها التي كانت وفيّة لخالقها، أي كاتبها، فبلّغت الرسالات التي كُلّف كل منها بمهمة إيصالها إلى القارئ؛ الطيّب (المواطن البسيط المسالم الذي لا تشب اعتراضاته عن طوق الفكرة الصامتة) ، والأحمر (الثوري الشيوعي صاحب الأفكار الثوريّة)، والأخضر (المجاهد السرّي الذي قاوم الاستعمار والفساد ولا يود التنازل عن تزويج ولده الطيّب من الجازية)، والجازية (نتاج تزاوج الحلم والواقع، ابنة الدم التي تلطخ نبوءة الدم مسقبلها، وهي الحياة المكبلة التي تنتظر من يحررها) ، والشامبيط (رمز الفساد المتلوّن الذي يود أن يغسل يديه من عاره عبر مصاهرة الجازية ابن الشهيد)، والراعي (العاشق الصامت الذي حوّل آماله المهدرة على عتبات العرف والمنطق إلى طوفان من الخبث والشرور)، والدراويش (رمز السلطة الدينيّة التي تفقد قوتها إن خرج الناس من كهف الخرافة).

في النهاية، عمل ملحميّ لا تتجاوز صفحاته المائتين، يحمل قارئه كآلة الزمن إلى تلك الأرض المنهكة، فيقف على مسافة قريبة ليتأمل وجه الجزائر، تلك الأرملة التي دفنت للتو مليون شهيدًا من أبنائها، ولم تكد تشعر بنشوة التحرر حتى أحاط بها الطامعون من كل الجهات.

في أحد مشاهد الرواية، داخل السجن، يكتشف الطيّب أن ثمّة سجين ما، قضى نحبه قبل أن يلج الطيّب زنزانته، اعتاد أن يحفر بأظافره حرف الألف تواليّا على الجدران، لكنه توقف عند مساحة ما على الحائط لم يتجاوزها، وحين سأل الحارس عن القصة، أجابه أن السجين “مات قبل أن يصل إلى الباب”، فبُترت حروفه وانقطع أثره.

رحم الله عبد الجميد بن هدوقة، وجازاه عنّا خيرًا، وردّ الطيّب من محبسه إلى جزائرٍ لم تزل تنتظره، وتأمل أن يقاوم، حتى يصل إلى الباب…

محمد سمير ندا

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ