الرواية الورطة… ومتعة الأدب

ربّما يكون هذا النص الروائي أحد أكثر النصوص إثارة للجدل على صعيد الحكاية التي يرويها، ومن حيث المضمون الذي ربما ينفر الكثيرون من تصوّره، لكنني أحسب أنه أحد أهم النصوص الروائية التي قرأتها، ولا أعتقد أنني قادر على نسيانها…

تصوّروا معي:
يموت جوس مودي عازف الترومبيت الأسمر الشهير، نتلمّس معالم حزن أرملته “ميللي مودي” الجليّة، ونراقب اضطراب ولده المُتبنّى “كولمان”، إلى هنا يبدو كل شيء طبيعيًّا، ولكن، ماذا لو تسرّب السر العظيم إلى العلن؟ وماذا لو كانت في جعبة الموت حياة مغايرة ستولد في اللحظة التي سيدفن فيها “جوس مودي”؟
لماذا؟
لأن “جوس مودي”، كان امرأة؛ هكذا ولد، وهكذا عاش، وهكذا مات، “جوس مودي” كان في واقع الأمر “جوزيفين مودي”!

العظيم في هذا النص هو عدم مناقشته للشق البيولوجي لعلاقة جوس وميللي مودي، وخلوّه من أي تضمين يدعو إلى تعميم أو قبول العلاقات غير الطبيعية، إنما هو فقط يناقش قضية الإنسان، أي النفس الإنسانية العالقة – بكل عيوبها وميزاتها – داخل كل شخص من شخوص الرواية، فكيف ستكون ردة فعل كولمان الذي عاش طيلة عقود تظلله أبوّة رجل يتحول بين غمضة عين وانتباهتها إلى امرأة؟ هل يمتلك القدرة على الغفران؟ وماذا عن نظرته تجاه أمه؟ كيف يمكنه أن يعيد ترتيب أوراق ماضيه وحاضره ومستقبله بعدما ضربته الصاعقة؟
وهل تتغير نظرة المجتمع تجاه العبقرية الموسيقيّة لمودي بعد نقل اسمه من خانة “ذكر” إلى خانة “أنثى”؟

من أهم عناصر المتعة في هذا النص الأدبي الفريد، هو استخدام التقنية البوليفونيّة بطرائق متغيّرة، ففي بعض الآونة يتحدث الراوي العليم ليخبرنا بمنظور كل شخص أو شاهد عيان حيال القضية التي أثارت الرأي العام فور اكتشافها، ثم تعود الكاتبة والشاعرة الاسكتلندية “جاكي كاي” لتمنح الشخوص مساحة للتعبير عن مشاعرهم من خلال المونولوجات الداخلية التي تخترق رواية الراوي العليم. كانت تقنية كتابة هذا النص، ودرجة إتقانها، مبهرة وممتعة بالنسبة لي كقارئ.

الشخصيّات الرئيسة في هذا النص متنوّعة من حيث الخلفية والرأي والغرض، لكن حبكة النص التصاعديّة تقدمهم تواليًا على مسرح الحكاية، لدينا صحفيّة مغمورة هي صوفيا ستونز تحاول إعداد كتاب عن سيرة جوزيفين/جوس مودي، تتواصل صوفيا مع كل من كان هلى علاقة بنجم الجاز الشهير، فتكون ميللي مودي أول الرافضين بحسم وصرامة، لكن صدمة الابن كولمان تفجّر داخله طاقة غضب تدفعه إلى التعاون مع الصحفيّة المشبوهة.

من أهم عناصر التشويق في هذه الرواية، والتي جعلت منها page turner بجدارة، هو عدم إفلات خيوط القصص الفرعيّة غير المكتملة، والحرص على إبقاء مساحة ضبابية حتى النهاية، وعلى الرغم من أنني أتحدث عن نص قوامه ٣٥٠ صفحة، فقد التهمته بأقصى سرعة ممكنة، وحزنت كثيرًا عندما أنهيته.
فعلى السبيل المثال؛ نعرف أن والدة جوس/جوزيفين ما زالت على قيد الحياة، وأن كولمان سافر للقائها، فإلام آل اللقاء؟ ينبغي أن ننتظر لنعرف ما دار عبر استنتاجه من طيّات النتائج!
كذلك؛ نعرف أن جوس/جوزيفين ترك/ت خطابًا لكولمان متوّجًا بعبارة “يفتح بعد موتي” لكن كولمان يأجل القراءة ويسوّفها ما بين غضب وحذر وخوف، كان كولمان يخشى أن يقرأ ما قد يقنعه بمسامحة أبويه، فآثر الهروب من المكاشفة حتى اللحظات الأخيرة!

تطرح هذه الرواية العديد من الأسئلة عن الهوية الإنسانية، وعن العنصريّة وقبول الآخر، وتترك الإجابة للقارئ؛ ما الذي أجبر جوزيفين على التخفّي في هيئة جوس؟ هل الأمر مجرد اختلاط وانحراف للميول عن الفطرة؟ أم أنه ارتباك حيال تحديد الهوية الإنسانية وفرض الوجود فوق الأرض؟ لماذا قبلت ميللي بهذه العلاقة الغريبة؟ وكيف خدعت هي وجوس العالم بأسرة طيلة ثلاثين سنة؟
عقب ذلك؛ تنهمر الاسئلة حول قدرة الإنسان على الخيانة، فكم صديق ومقرّب وجار ورفيق طفولة سيكون على استعداد للمشاركة في نهش جثة مودي عبر المشاركة في كتاب صوفيا ستونز التي تدفع بسخاء لكل من يخوض في سيرة آل مودي؟

لكن السؤال الأهم هنا سيظل معلقًا في رقبة كولمان؛ فهل سيخون كولمان ذكرى والده بعدما تغيرت صفته البيولوجيّة من رجل إلى امرأة؟ هل تتلوث الذكريات في إثر انكشاف هذه الحقيقة الصادمة؟ هل يفقد مشاعره ويتخلص من ذكرياته مع جوس مودي بعدما اتضح أنه جوزيفين مودي؟ أم تكون الوشائج بينهما أقوى من الهويّة الجنسيّة؟ هل تنهار الحياة إذا شيّدت على كذبة، أم أن الحب الصادق يترك بابًا مفتوحًا للغفران؟

هذه حكاية تأرجحت بين ثنائيات الحقيقة والكذب، السر والافتضاح، الوفاء والخيانة، الموت والبقاء، والعشق والكراهية، لتطرح عبر ذلك التضاد أسئلة شائكة عبر وضع الحب والصدق والوفاء في مواجهة الهوية الجنسيّة، ثم لتُسائل الإنسانية عن التمييز العرقي قبل الجنسي، قبل أن تترك القارئ في حيرة ذهنية كبيرة، كأنها تضعه في مقعد القاضي، مطالبة إياه أن يصدر حكمه على الجميع!

هذه الرواية ورطة حقيقيّة، لكنها ورطة ممتعة على الصعيد الأدبي، وحتى على الصعيد الفكريّ…

لا يفوتني هنا أن أشيد بترجمة هذا النص، فقد كانت رائعة بحق، كما يتوجّب علي أن أبدي امتناني (الممزوج بدهشتي) لترجمة هذا النص إلى العربية…

صدرت الرواية عن دار مسكيليانى للنشر Masciliana Editions عام ٢٠٢٠ بترجمة عماد الأحمد ومراجعة معز زيّود.

ملحوظة ١: الترومبيت آلة موسيقية ذات أصول شرقيّة شاع استخدامها في الموسيقا الغربية منذ قرن ونصف، وتصنف ضمن آلات النفخ النحاسيّة، وهي مرتبطة بموسيقا الجاز والموسيقا المكسيكيّة والأوركيسترا السيمفونية، رغم أن أصولها تعود إلى عهد المصريين القدماء.

ملحوظة ٢: أتمنى أن تُترجم نصوص أخرى لهذه الكاتبة الرائعة…

#محمد_سمير_ندا

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ