ولديكم في السودان شيخ للحكائين… فاتبعوه!قراءة في رواية صائد اليرقات، وأدب أمير تاج السر، وأمور أخرى

تقديم طويل نسبيًّا … في هجاء الشوفينية الثقافية، وتقريع الذات
(يُنصح بتجاوزه للقارئ سريع الملل)

في البداية أعترف أنني مُقصّر! إذ اكتشفت منذ أيام أنني لم أكتب عن أمير تاج السر قبل اليوم، وهو أمر غريب ألا أكتب عن أديب قرأت الكثير من أعماله فلم أخرج من أي منها إلا راضيًا مستمتعًا باسمًا، وربما مندهشًا. راجعت قراءاتي على موقع جودريدز فوجدت أنني تركت تقييمًا مرتفعًا لكل ما قرأته من أعمال هذا الرجل من دون مراجعة واحدة، بل إن بعض الأعمال التي قرأتها لم تندرج بعد تحت خانة “الروايات التي تمت قراءتها”! فتضاعفت حيرتي وامتزجت بلوم النفس ومعاتبتها، حيث كلفت نفسي منذ سنوات بمهمة إلقاء الضوء على الأدب الذي أرى -وفق ذائقتي الخاصة- أنه متميّز، مع التركيز على تعريف القارئ المصري بالأدب العربي على وجه الخصوص، عملاً على هدم السور الحصين الذي بناه المصريون حول ثقافتهم ومثقفيهم، حتى انعزلنا -أو كدنا ننعزل- عن كل ما يخطه قلم عربي خارج هذا السور، اللهم باستثناء ما يرد إلينا من الشمال مترجمًا، فهذا مرحب به ومطلوب ومنتشر على أرصفة القاهرة. هكذا أضحى مقبولاً لدى عموم القراء في وطننا المحاصر بشوفينيتنا الخاصة، ألا يعرف القارئ شيئًا عن أدب منيف والكوني وجبرا وفواز حداد وتاج السر والضعيف وبيضون وآل بركات وصويلح والحبيب السايح ومحمد شكري وبرادة والمبخوت وإسماعيل فهد وسعد رحيم والتكرلي وسنان ومطلك والرملي وإبراهيم نصر الله وجان دوست وعالية ممدوح وميسلون هادي وسمر يزبك والعشرات غيرهم، في ذات الوقت الذي لا يجوز ولا يصح ولا يستقيم فيه ألا يعرف القارئ التحدث -وربما التباهي- بأدب دوستويفسكي وتولستوي وأوستر وموديانو وكونديرا وإيكو وموراكامي وكامو وسارتر وآخرين!
أنا هنا لا أقصد التقليل من الأدب العالمي فهذه أسماء لها إسهام ثقافي وتنويري عظيم، كما لا أقلل من شأن الأدب المصري الذي أؤمن أنه لم يزل قادرًا على انتاج كتابة مهمة وفارقة لا تقل في قيمتها عن الأدب المحفوظي وأدب عمالقة الستينيّات والسبعينيّات الذين واريناهم خلف ظل محفوظ؛ عبد الحكيم قاسم وصبري موسى وسليمان فياض وفتحي غانم والمنسي قنديل وجار النبي وفريد أبو سعده وبهاء طاهر وأمين ريان وإبراهيم عبد المجيد وعلاء وبدر الديب ورضوى عاشور والمخزنجي ومستجاب ولطفية الزيات وعبد الفتاح الجمل والكفراوي وسلوى بكر ومجيد طوبيا ويحي الطاهر وحافظ رجب، فهؤلاء، ومعهم محفوظ، هم من شكلوا ذائقتنا القرائيّة والكتابيّة بنسبة كبيرة، لكنني -فقط- أنشد تمزيق الشرنقة التي تقوقعنا داخلها، وتهديم السور الذي يحجب عنا كتابات عربية شديدة التميّز، سريعة التطور.

قل… ولا تقل
قل: الأدب السوداني النابض والمستمر والآخذ في التطور والترقي
لا تقل: بلاد الطيب صالح، وأبناء وأحفاد الطيب صالح
علل؟ لأننا بهذا نصفُّ كل المبدعين السودانيين خلف ظل الطيب صالح (العظيم)، فنكرر ما فعلناه في حق مبدعين مصريين تم دفنهم تحت تمثال محفوظ (العظيم بدوره)

الأمير حافظ تراب السر…
أعرف أن المقدمة ربما أصابت القارئ بالملل، ولكن؛ يمكنك عزيزي القارئ العجول سريع الملل أن تبدأ قراءتك من هنا، لو وجدت ما ورد أعلاه خارج نطاق اهتماماتك.
لا يعرف الكثيرون أن الكاتب السوداني القدير أمير تاج السر له صلة قرابة بالأديب الكبير الطيب صالح، فالأخير هو خال الأول، والطيب صالح هو الأكثر شهرة بين أدباء السودان حتى اليوم على الرغم من رحيلة سنة ٢٠٠٩، ولعل السبب يرجع إلى تفرّد روايته الخالدة “موسم الهجرة إلى الشمال” التي جاءت سابقة لزمانها، ومن بعدها “عرس الزين” وبقية أعماله الروائية والقصصية القليلة بالمناسبة، فماذا عن أمير تاج السر؟
في رأيي، لا يوجد ثمّة تأثّر بين كتابة الطيب صالح وتاج السر، وإذا كان الطيب صالح هو الأكثر شهرة بين أدباء السودان، ولو كان الراحل العظيم خيري شلبي هو شيخ الحكائين المصريين، فإن أمير تاج السر هو الأجدر بلقب شيخ الحكائين السودانيين، لأنه الأكثر خوضًا في الحياة السودانية والأكثر اقترابًا ومعايشة لمفرداتها اليومية، والأصدق اهتمامًا بأزقتها وحاراتها وتاريخها وشخوصها وترابها. ولو كانت أصوات التكريم والتقدير تعلو في ديار العرب على خطابات ثقافة التأبين، لاعترف الكافة أن تاج السر هو صوت السودان الأبرز، وأنه حافظ تراب الأرض السودانية وحاضن أسرارها، ولا أبالغ إذ أنقل مقولة صديق سوداني قال لي ذات مرة: عندما أقلب غلاف أية رواية لتاج السر لأشرع في قراءتها؛ أشم رائحة السودان، وأستعيد رائحة أمي وقريتنا وأزقتنا وأكلاتنا، رواياته بكل بساطة؛ تعيدني إلى السودان!

شخوص حيّة تقيم في الذاكرة، تشتل البسمات وتشغلها لهوًا وترحالاً…
وبينما كنت أجري مراجعة سريعة على جودريدز لما قرأته لتاج السر قبل صائد اليرقات، استوقفتني ملاحظة هامة وعجيبة، إذ كنت كلما وقفت على غلاف تذكرت اسم بطل الرواية، وهو أمر قد يحدث لدى نشوء علاقة قوية بين القارئ والنص، والأمثلة كثيرة، لكنني اكتشفت أن أبطال روايات أمير تاج السرد، جميعًا، قد نجحوا في التسلل إلى ذاكرتي والإقامة في حجراتها المكتظة بالشخوص!
“علي جرجار” في العطر الفرنسي، شخصية “حكاية” كما نقول في العامية المصرية، أو “راجل حدوته لوحده”، رجل نجح ببراعة في الانسلاخ عن الواقع وخلق عالم جديد أقام فيه منفردًا ثم مارس فيه كل نزواته وشروره متقلبًا بين أسرّة النعيم وبُسُط الشوك والنار.
“آدم نظر” في مهر الصياح، تلك الرواية الأسطورية الهاربة من صحف الواقع التاريخي، وحكاية الأب “نظر حبايب” للذي عاش يتمنى الحج، والتي اكتشفت أنها لم تزل مقيمة في عقلي رغم قصر مساحتها الورقية، الرواية كلها باقية في وجداني إلى اليوم رغم أنني قرأتها -على ما يبدو- في زمن لم أكن أهتم فيه بتسجيل قراءاتي على جودريدز وعرضها على الفايسبوك، لا يمكن أن أنسى مجلس الكوراك والأصوات السبعة وما تنطوي عليه الحكاية من رموز ودلالات.
المرحوم في رواية ٣٦٦ والحالة الفريدة والغريبة للحب المستحيل المتخيّل، أو مجنون أسماء الذي لم نعرف اسمه حسبما أتذكر.
“نيشان حمزة نيشان” في رواية طقس، تلك الرواية التجريبيّة الجريئة التي تعرض حالة مطاردة بين الخيال والواقع، بين كاتب الرواية وبطلها.
ولا يمكن أن أنسى حكاية “سعد مبروك” في توترات القبطي (أو ميخائيل بالأحرى)، مع “خميلة”، تلك الحكاية البديعة عن التطرف والثورات، وصراع الأمير مع ميخائيل الذي صار سعدًا على الوطن المتمثل في صورة “خميلة”، في زمن الثورة المهدية ضد حكم الأتراك والمصريين وضد الحياة برمتها، وهي الحكاية التي سوف تتواصل بعد سنوات في “زهور تأكلها النار”، التي هي استطراد لتوترات القبطي بصوت مغاير يدين العنف الأصولي في الفترة الزمنية ذاتها (أعتقد أن تاح السر قد أراد أن يجرد روايتيه هذه من ثوب التأريخ فنحّى اسم المهدي عن فضاء السرد واستبدله باسم التقيّ أو المتقيّ).
السؤال هنا؛ أكان من الطبيعي أن أتذكر هذه الشخوص كلها بمجرد استرجاع اسم الرواية ومطالعة غلافها؟ بالنسبة لي، كقارئ سمكيّ الذاكرة تتبخر انطباعاته ما لم يكتبها فور انتهاء القراءة، كانت هذه معجزة! من المؤكد أنني لازلت أذكر أسماء شخوص روايات مهمة أثرت فيّ كثيرًا، ولكن أن أستعيد أسماء أبطال روايات مختلفة تتفاوت أزمنة قراءتها لنفس الكاتب، فهذا أمر خطير! فالأمر سهل مع كتابات أستاذي المنسي قنديل لأن كل أبطاله اسمهم عليّ تقريبا، أما في حالة تاج السر، فالأمر محيّر، والأغرب أن أغلب أسماء الشخوص تحضرني مصحوبة بابتسامة، فخفة الظل السودانية تنضح وتنسكب من كتابة تاج السر، إذ تحفل بالمواقف التراجيكوميدية، رغم سوداوية الأجواء في الكثير منها.
الدرس المستفاد؛ ثمة سحر ما في كتابة شيخ الحكائين السودانيين.

صائد اليرقات: تاج السر وعبد الله فرفار؛ من منهما اصطاد يرقة الآخر؟
تنويه: هذه القراءة تنطوي على حرق للأحداث

القيد الخفي، والعبودية الطوعيّة…
هل يمكن لعنصرٍ أمني مُسحت دماغه وعاش لسنوات يمارس القمع ويبرره، أن يكتب -في إثر تقاعده- رواية؟ هل يقدر من عاش -راضيًا مرضيًّا- وراء قضبان غير ملموسة أن يتحرر من أثر كل قيدٍ خفيّ، ليحلق في آفاق التخييل والإبداع؟ وحتّام يظل الدماغ حبيسًا لفكرة عاش وفيًّا لها حتى بعد الخذلان؟ تلك هي أسئلة الرواية، أو سؤالها الوحيد بصيغ مختلفة.
هذا النص إذن يناقش أثر العبودية الطوعيّة لا القسريّة، وينطلق من فكرة عابرة ربما اشتقّها تاج السر من جملة قاطعت شروده، أو من شرود وجه عابس مر إلى جواره، أو من قصاصة ورق صفراء وجدت طريقها إلى مجلسه، فشيوخ الحكائين لا يلزمهم سوى العثور على يرقة الحكاية حتى يخلقوا كائنات من لحم ودم تترك أثرًا إنسانيًّا حيثما تخطو فوق الورق.
عبد الله حرفش، أو عبد الله فرفار كما يسمّيه رفاقه، يفقد ساقه عقب مشهد تراجيكوميدي يصعب نسيانه، الشق المضحك يتبلور في الطريقة التي وقعت بها الحادثة لتعكس الفشل والتلعثم الأمني الفاضح على صعيديّ التخطيط والتنسيق، أما الشق التراجيدي، فهو إحالة فرفار إلى التقاعد وإعادته إلى منزله منقوصًا من ساقٍ بقيت وحدها لتدافع عن الوطن في صحراء خاوية، ضد عدو خفيّ متوهّم، وما ينطوي عليه ذلك من تأكيدٍ على انعدام قيمة الإنسان لدى النظم الأمنيّة الحاكمة، حتى لو كان هذا الإنسان أحد أدواتها القمعيّة!
يُقرر فرفار الاقتراب من أوساط المثقفين، المرصودة أمنيًّا بطبيعة الحال، ويلفت انتباهه أديب شهير يلتمّ حوله أشباه المثقفين. يبدو مقهى المثقفين هنا كمصغّر متقن لأوساط ثقافة المديوكرز العربيّة، لهذا ذهلت حين وجدت أن اسم الروائيّ الجالس على عرش هؤلاء هو (أ. ت)، كأنه أمير تاج السر نفسه! حدّ أنه ينسب إلى هذا الروائي رواية تسلب عقل الأمنيّ المتقاعد فرفار، عنوانها “على سريري ماتت إيفا”، وهي رواية نقرأ منها عدة مقاطع “ميتافكشنيّة” نتعرّف فيها على لغة محكمة تخدم حبكة عاطفية مكرورة عن تعلق العربي المسافر بالشقراء الفاتنة، وعلى الرغم من أن الكاتب ربما أراد أن يقدم لنا صورة غير مثالية عن أدب (أ. ت) وسطحيته، فقد تولّدت لدي رغبة حقيقيّة في استكمال قراءة “على سريري ماتت إيفا”، ولا أعرف أهذه علامة على جودة النص المتخفّي وراء النص الأصلي والموظّف في نسيج السرد، أم دلالة على انحراف ذائقتي الأدبية بما يتسق مع ذائقة عبد الله فرفار؟!

يرقات الكتابة…
كل فكرة هي يرقة حكاية، هكذا ينصح (أ. ت) جليسه عبد الله فرفار بعدما تتوطد علاقتهما.
وهكذا، بعد أكثر من فكرة (يرقة) فاسدة تنتهي أحدها إلى تقرير أمني مكرر بدلا من رواية، يشرع فرفار في تأمل ورصد شخوص يعيشون في محيطه عن كثب، فيستقر على نموذجين هما في غاية الثراء، زوج العمة؛ المدلك والممثل الفاشل الذي لا يمانع أن يموت على خشبة المسرح أو أن يفسد عرضًا مسرحيًّا حتى يبلغ من مراتب الاشتهار ما يرضيه، والمشجع الكروي حفّار القبور، الذي يفقد اتزانه بعد تكريمه وظهوره على صفحات الجرائد.
لا يمكن هنا أن أغفل ملاحظة هامة ربما أراد الكاتب أن يمرر من خلالها حقيقة ازدواجية المجتمع، فلكل شخصٍ هنا شخصيتين/وظيفتين/هويتين؛ عاشق المسرح المهووس يعمل كمدلك، وقائد مشجعي فريق اللبلاب لكرة القدم (لم أزل أضحك كلما أقرأ اسم هذا الفريق) هو بالأساس حفار قبور، والكاتب المبتدئ -إن جاز التعبير- الذي يحاول أن يبث الحياة في يرقات حكايتي هذين النموذجين، ليس سوى أمني سابق يواجه صعوبة في الكتابة عن أي شيء خلاف الأوراق الصفراء التي اعتاد أن يدوّن عليها تقاريره الأمنية.
يتأرجح فرفار بين النموذجين، تزداد قراءاته، يكوّن مكتبته الأولى، يتوغل في الحقل الثقافي، فيبدو -من خلال المونولوج الذاتي الذي يدور في مخيلته والأسئلة التي تتكاثف في عقله عن قدرته على التغير- كأنه على أعتاب التحرر من شخصيته القديمة، والتعرف إلى شخصيته الجديدة القادرة على فعل الخلق وتحديد المسارات، لا التبعيّة العمياء لإرادة الآخر. كانت لدينا ثورة تتراكم أسبابها وتتأهب للاشتعال، لكنها لن تكتمل، ولن تبلغ من رغباتها اكتمالا؛ ككل الثورات العربية.

ذروة العبثيّة…
من عجائب الأخبار وعبث الأقدار أن تنهار المشاريع الروائية لعبد الله فرفار بالتزامن مع تبخر (أ. ت)، فالمدلك والممثل المسرحي ينجح في بلوغ النجاح على الرغم من كونه لا يمتلك مؤهلاً واحدُا من مسوغات النجاح، حتى أن زياراته إلى دبي تتكرر بعدما يصبح وجهًا إعلانيًّا مطلوبًا، فيفقد فرفار شغفه بالشخصية وتنفلت من بين أصابعه خيوطها الرئيسة! أما المشجع وحفار القبور، فيتم نقله إلى القصر الأبيض الذي هو مستشفى الأمراض العقلية وقد مسّه ضوء الشهرة المفاجئة على محدوديته. يفقد فرفار يرقتيه الأهم، ويختفي أستاذه (أ. ت) ويفقد أثره، وما يثير جنونه هنا هو ما سمعه أن الأستاذ متفرّغ لكتابة رواية جديدة عن شخصيّة ثريّة عرفها مؤخرًا، فيترسخ في يقينه أن (أ. ت) قد سرق إحدى يرقتيه بعدما روى له الكثير عنهما، فشجعه الأستاذ على كتابة إحداهما لتتحوّل يرقاتهما إلى مخلوقات حية كاملة تليق بها السكنى بين غلافين لا تقل روعتهما عن غلاف “على سريري ماتت إيفا”.
وبينما هو في ذروة التيه، وعلى الرغم من بلوغه حافة الانعتاق الكليّ معاكسًا ترنّح ثورته الخاصة، تتداعى جدران عالمه الآخذ في التشكّل بمنتهى البساطة؛ مكالمة استدعاء إلى مقر الأمن، فزملاؤه لم يتوقفوا عن رصد حركته في الشهور الأخيرة، الأمر الذي جعله مؤهلاً لاستعادة عمله/حياته/هويته السابقة، ولكن هذه المرة كمخبر يتقصى نشاط المثقفين (إن وجد)، وكتابة تقاريره عن اللقاءات والمحاورات التي تجمعهم.
تلك كانت نقطة الذروة، وإجابة السؤال المعلق في فضاء الرواية منذ مستهلّها، فالإنسان العربي المحكوم بسلطة قاهرة تجبره على اعتياد العبودية حتى ولو باتت خيارًا، لن يقدر على استعادة قدرته على الفعل الحرّ حتى لو خاض في سبيل ذلك صراعًا داخليًا صاخبًا؛ سيظل مآله مربع صغير تحدد أضلاعه ذات السلطة التي قهرته قسرًا وطواعية. فهل يقبل فرفار بالعودة إلى المربع صفر، بعدما عرف أخيرًا أنه كان المربع صفر؟ أم يرفع راية العصيان؟ الإجابة معلومة وإن لم يفصح عنها الكاتب! على الأقل بالنسبة إلى القارئ العربي.

التقمص في أبرع صورة…
برع الكاتب القدير في تقمّص شخصيّته الرئيسة التي منحها منصة السرد على طول الخط، أسلوب فرفار يتّسق مع عقلية رجل أمن، اختياره تسمية الشخوص بالأحرف الأولى أو اختزالها في وظيفتها من باب التجهيل بالهوية يعكس اهتمام الكاتب بالتفاصيل الصغيرة التي تعد من أهم عناصر القوة في أي نص أدبيّ، حالة التردد حيال استكشاف الخطوات الأولى في ردهات الكتابة، ونظرته إلى الوجوه ومحاولة استكناه خفاياها، منحته مصداقيّة مضافة، كما أن تطوّر أسلوب الكتابة لديه من طور التقرير الأمني إلى طور كتابة المبتدئين جعل الرواية ثلاثيّة الأبعاد.

الحيلة، والكراسي الموسيقية…
من يكتب من؟ هل يكتب فرفار حكايته في حضور الكاتب، أم أن الكاتب هو من يكتب حكاية فرفار منذ البداية؟ النهاية -رغم احتماليّة استشرافها منذ اختفاء الكاتب- تظل ممتعة ومثيرة للإعجاب؛ يظهر الكاتب (أ. ت) ليخبر فرفار أنه كتب رواية عنها هو، ويطلب منه العفو والسماح لأنه كتب له النهاية التي قرأناها منذ صفحات، فهو في روايته التي نقرأها نحن منذ البداية، قرر أن يعيد فرفار إلى عمله السابق كمخبر أمني!
كانت هناك إذن لعبة كراسٍ موسيقية يدور خلالها الكاتب والبطل حول مقعد السارد، وعلى الرغم من اختلاط الأصوات الموسيقية بين الإيقاعية المبهجة المغرقة في التفاؤل، والجنائزيّة الجرسيّة القريبة من الواقع؛ فقد ظل التناسق حاضرًا طوال زمن اللعبة، التي لا أحب قولبتها واحتجازها بين قوسيّ (الميتافيكشن) بقدر ما أحب أن أصنّفها ضمن الروايات ذات الحيلة الروائية، وأدب الكوميديا السوداء.

هل قرأت فصولاً من “على سريري ماتت إيفا” ضمن قراءتي لرواية فرفار التي كتبها تاج السر، أم أنني قرأتها ضمن كتابة فرفار التي اقتبسها تاج السر؟ وهل هي رواية هزلية يراد بها نقد مجتمع ثقافة المديوكرز، أم أنها يرقة غير مكتملة لم تزل راقدة في حقيبة تاج السر؟ هل كان فرفار شخصية حقيقية؟ أم أنه يرقة اجتذبها تاج السر إلى أوراقه التي كانت ولم تزل حافلة باليرقات والفراشات؟ الإجابات هنا لا تشغلني، طالما تحققت لدي متعة ودهشة واستفادة، فليس هناك ما هو أهم من ذلك

صدرت “صائد اليرقات” في طبعتها الأولى عام ٢٠١٠ عن دار ثقافة التابعة للدار العربية للعلوم بالاشتراك مع منشورات ضفاف، وصدرت طبعاتها التالية عن دار الساقي بداية من عام ٢٠١٤، وبلغت القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية سنة ٢٠١١.
ملحوظة: أود لو أعرف صاحب لوحة الغلاف في طبعة دار الساقي.

ختام
كتابة أمير تاج السر تحمل طابعًا خاصًا، وله بصمة مميزة تجعلني اليوم قادرًا على تمييز كتابته ولو وجدتها بخط اليد في رزمة من الأوراق الصفراء، خفة ظل طاغية، تنوع في مسارح المكان والزمان، نقل فنّي بارع وأمين لواقع السودان. شخصيّات تاج السر -في كل ما قرأت من أعماله- تظل عميقة الأثر، ربما لصدقها أو لقوة بنيانها أو لتفرد أسماء معظمها، لا أعرف على وجه التحديد لأنني لست ناقدًا أكاديميًّا، ولكن لأنني قارئ بالأساس فأنا أعرف أنني لا أنسى أبطال رواياته، تماما كما لا ينسى الناس مصطفى سعيد ووليد مسعود والجبلاوي، لكن الغريب أن كل أبطال رواياته لم يغادروا ذاكرتي حتى الآن، وآخر المنضمين هو عبد الله فرفار.
لغة أمير تاج السر تراوح بين الشعر والنثر بخفة وحرفيّة، فالروائي الذي بدأ حياته الأدبيّة شاعرًا، لم يزل وفيًّا للغته وصوره وتراكيبه اللغوية، حتى حين أراد أن ينقل لنا نموذجًا لكتابة تجاريّة تعكس حقيقة أشباه المثقفين، كحكاية الكاتبة المضحكة (س) في صائد اليرقات، جاءت اللغة أفضل وأرقى من الكثير مما يصدر اليوم من روايات حقيقية.

رحم الله خالك وطيّب ثراه يا تاج السر، ولو كان الطيب صالح حيًّا إلى اليوم لجزم أن الأدب السوداني لم يتوقف عند حدود قبره، ولأشار بالبنان إلى رموز الأجيال اللاحقة وعلى رأسها أمير تاج السر وحمور زيادة، مع اعتذاري لليلى أبو العلا بحكم أنها تكتب بالإنجليزية، ولكن، في ظل قراءاتي للكثير عن الأدب السودانيّ المعاصر، وقراءة الكثير من الأعمال الروائية والقصصية السودانية بداية من الطيب الصالح وحتى اليوم، أود أن أقول، بينما أرجو أن يتسع صدر القارئ العربي والسوداني لكلماتي هذه:
إن أمير تاج السر هو شيخ الحكائين السودانيين بجدارة، وهو أحد أبرز الحكائين العرب في العموم، أمير تاج السر هو أفضل وأبرع من نقل السودان بتاريخها وجغرافيتها وطبيعتها المجتمعية والسوسيولوجية، وهو خير سفير للأدب السوداني خلال الأعوام المائة الأخيرة، دون تقليل لأحد، ولا إقصاء لهذا أو إبعاد لذاك.
يا معشر السودانيين؛ لديكم في السودان شيخ للحكائين… فاتبعوه… وكرموه… واحتفوا به… لعلكم تستفيدون من أخطاء الآخرين… فتحرصون على وجوبية التكريم…. عوضًا عن ثقافة التأبين…

أمير تاج السر، كاتب وطبيب سوداني ولد عام ١٩٦٠، تخرج في كلية الطب في طنطا (مصر)، ويقيم حاليًا في الدوحة حيث يعمل طبيبًا باطنيًّا، وروائيًّا فذًّا، بدرجة سفير أدبي لشعب السودان.

#محمد_سمير_ندا

See less

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ