المطر الأصفر…لأن الحرب لا تدور -فقط- على جبهات القتال..

ا..

المطر الأصفر؛ وحدة، انسحاب وتأهب لسفر طويل، بل هو نفير ينطلق لينبه المسافر إلى موعد قطار لم يخطئ يومًا موعده، ستار ينسدل ليضبب الذاكرة ويبعثر الذكريات، المطر الأصفر شبح جوّال في فضاء الوحدة، ظل بلا جسد يقتعد الطرقات في المدن القديمة، قطراته تعكس وجوه الراحلين، وتتحوّل لوهلة إلى مرايا، مرايا قاسية تعرّي أمام الأعين شيخوخة كنا نود لو لا نبصرها، المطر الأصفر عجز وفقد ويأس، فإذا هطل المطر الأصفر، ولامسته عيناك، وإذا انقضت شهور لم يراودك فيها النوم ولا تعرف السبات، فاعلم أنك الساعة من عداد الأموات، وتأهب للقاء عجوز ياماثاريس، لعله يجود عليك بجولة بين أطلال وذكريات قرية “اينيلي”، كما فعل مع كل من قرأ هذه الرواية الفذة…

زمن الرواية هو زمن الحرب الأهلية في إسبانيا، وفضاءها المكاني قرية صغيرة لا تلاحظها الطائرات ولا يمر بها المتحاربون، لكن الحرب لا تحضر في نص ياماثاريس بصورتها المألوفة، إنما هي حرب موازية من نوع آخر، حرب لا تعرف دوي المدافع ولا قصف الطائرات ولا طلقات المتنازعين، إنما هي حرب تدور في صدر عجوز وحيد، رجل ينزح أهل قريته، الأسرة تلو الأخرى، يصرع المرض ابنته الصغيرة سارة، يهاجر ولده الوحيد أندريس، تغزو ظلال الوحدة طرقات لم يألف غيرها، يدهمه الصقيع فيجمد أطراف الزمن، تشنق زوجتة سابينا نفسها بعد أيام من رحيل آخر الجيران، لكن وتيرة حرب العجوز لا تهدأ، وصراعه مع نفسه يظل مستعرًا.
كانت لدى العجوز ألف فرصة للنزوح، وألف امل في الخلاص، لكنه بقي وفيًّا لانتمائه الوحيد، اينيلي، القرية التي وهب نفسه لها، وكلف نفسه بحراستها من العائدين بعدما ارتكيوا خطيئة الخيانة تجاه معتقده وانتمائه، وتخلّوا عن وطنه، تاركينه وحيدًا يخوض الحرب في أتون عقلٍ راح يراكم الخيبات والخسارات.
يراقب العجوز زيارات الأشباح الهائمة، يعتريه توجّس سرعان ما يخفف الاعتياد من وطأته، يراقب قطرات المطر الأصفر، والظلال الصفراء، والأرض الصفراء، فيحفر قبره، ويهب رصاصته الأخيرة إلى كلبته التي يعرف أنها ستموت جوعًا بعد رحيله الوشيك، يناجي ملك الموت المراوغ، تتداعى ذاكرته، ويهجر النوم مضجعه لشهور، فيعرف أنه مات، ليظل في انتظار مرور العابرين، لعل أحدهم يسجيه في قبره المشرع على الانتظار…

حكاية عن الوحدة، عن الهروب إلى الداخل، عن الحروب الساكنة التي لا يسمع صخبها ولا يصلنا هدير آلاتها، ربنا كانت ثمّة حرب أهليّة تدور في صفحات من الرواية لم تُكتب، ومشاهد مألوفة عن الضحايا والأرامل واليتامى مُزّقت من دفتر الوحي، لكن خوليو ياماثاريس كتب الحكاية الأحق بأن تروى، إذ حكى عن الإنسان، عن أزمته الطاحنة حيال مقاومة غريزة البقاء وقدرته على هزيمتها، عن الانتماء، وحب الأرض والتمسك بالذكريات، والوفاء للجذور…

ترجمة د. طلعت شاهين رائعة، عذبة، مؤثرة، يتنوع إيقاها بين هدوء القبور وعنف عواصف الثلج، تمامًا كحكاية ياماثاريس وعجوزه، كما أن النقدمة التي استهل بها الرواية عن علاقته العابرة بالكاتب في رحلة إلى بغداد،وضعت القارئ على مسافة قريبة من القارئ، فكان لها أثر عظيم…

مقطع من الرواية كنت أود لو كنت كاتبه:
{يعتقد الواحد منا إن الزمن نهر، إحساس غريب يغذي نفسه ولا ينتهي أبدًا، لكن تأتي لحظة يكتشف فيها الإنسان خيانة السنين – تأتي دائمًا لحظة – ينتهي فيها الشباب فجأة، ويذوب الزمن مثل كومة من الجليد اخترقها شعاع، فمنذ تلك اللحظة، لا يعود أي شيء إلى ما كان عليه، تبدأ الأيام في القصر، ويتحول الزمن إلى بخار زائل – كالجليد الذائب – يلف القلب ويخدّره شيئًا فشيئًا، وعندما ننتبه، يكون الوقت قد مضى، ولم يعد هناك وقت للتمرد}

رواية عظيمة، أشكر صديقي فايز غازي على ترشيحها لي…

#محمد_سمير_ندا

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ