آزاتسي، بين وهم أمومة الأوطان، وحقيقة اختطاف الشعوب…

رواية مهمة، ممتعة رغم ألم الذكرى، أسقطتني بجدارة في دوامة شجون… طرابلس الغرب، التسعينيّات، سنوات المرحلتين الإعداديّة والثانويّة، المسيرات الثوريّة، التجمعات في الساحة الخضراء، القذافي بصوته الذي اعتدت كتم ضحكاتي كلما أخذه انفعال فجعل يقاوم الإمبرياليّة، رفاق الصف، وأعضاء اللجان الثوريّة منهم، مادة الوعي السياسي، خيمة الأخ القائد، الكتاب الأخضر المقدس، أصبح الصبح فلا السجن ولا السجّان باقٍ، محمد الفيتوري، البيت لساكنه، الحكم للشعب، الزي العسكري الذي ارتديته لثلاث سنوات تعلمت خلالها فك وتركيب “الكلاشينكوف”، سيرة الخوف، توزيع الثروات على المواطنين، لاعبو الكرة الذين نعرف أرقامهم عوضًا عن أسمائهم، المعارك المجانيّة، الميل الفطريّ إلى الشجار كتفريغٍ لشحنات القهر والعجز والمنع، كل هذه الكلمات وغيرها، كانت مفردات واحدة من أهم عمليات اختطاف العقول في العصر الحديث…

عبر صفحات هذه الرواية، وعلى لسان راويها الأساسي، المتنقل بين دوريّ بطل الحدث والراوي العليم المطلع على حقائق الأحداث، نعرف كيف يمكن لحاكم دكتاتور، بمعونة حاشية تسجد في حضرته وتحقق استفادة قصوى ببقائه فوق عرش هذيانه، أن يختطف شعبًا بأكمله!

لقد اختطفَ نظام القذافي الشعب الليبي لأربعة عقود ونيف، وما يسرده ويوثّقه مجاهد البوسيفي هنا، يُثبت أن جورج أوروبل لم يبالغ في “١٩٨٤”، بل ربما يبدو خيال أورويل محدودًا مقارنة بالعالم الفانتازي الذي خلقه القذافي وفرضه على الشعب الليبي، ولا أنكر أن السنوات الست التي عشتها في طرابلس قد رسّخت لديّ مصداقيّة هذا النص، فلربما يعتقد قارئ آخر، لم يعايش الواقع الليبي، إنه يقرأ في هذا النص حكاية فانتازيّة، أو أنه أمام رواية تنتمي إلى أدب الديستوبيا أو الواقعيّة السحريّة، لكن أمتع ما في هذا النص، وأقساه، هو إنه مكتوب بقلم شاهد عيان، شاهد صامت كأغلب حال أبناء هذه المرحلة الكابوسيّة.

ولعل أفضل ما فعله البوسيفي في روايته هذه، هو إظهاره لبطله في رداء العاديّة، إذ لم يجعل منه مناضلاً سياسيًّا أو بطلاً حقوقيًّا أشهَر كلمة الحق في وجه حاكم جائر، بل جعل من بطل حكايته (سالم ناجي سالم) شخصًا عاديًّا، مهزوم بالفطرة، مستسلم منبطح كما يليق بأي عربي، لا تحرّكه ثمّة أيدولوجيّة أو قناعة أو فكرة، أو حتى رغبة في التحرر من الطغيان، مجرّد صحافي ينشد الهروب إلى فضاء تُقرأ فيه كلمة حريّة من دون خوف، فيشدّ الرحال إلى هولندا، حيث يستقر في مركز إغاثة اللاجئين، الذي يسمّيه العرب هناك “آزاتسي”.

ربما كان احتشاد النص بشخوص ثانويّة، عابرة أو مؤثرة أو ضلّت طريقها إلى أوراق النص، كفيلاً بإرباكي وتوقفي عن استكمال الحكاية، لكن الحمولة الشخصيّة التي تختزنها ذاكرتي فرضت عليّ المواصلة، فهذا التفاصيل، وهذه الشوارع والوجوه، أعرفها كلها، بل إنني أكاد أدعي أنني مستعد للشهادة أمام محكمة القراء دفاعًا عن مصداقيّة الحكاية.

كان سالم ناجي، كأي مواطن عربي أصيل، هارب من الواقع، يرفضه لكنه يتسلّح بالصمت والصبر، يواري آماله في دخان حشيش أماسيه، وآماله كلها شخصيّة بحتة، فلا وطن يشغله، ولا أسرة يؤرقه مصيرها “وهذا خلل في بناء الشخصيّة الرئيسة بالمناسبة”، هكذا استجاب المقموع لرغبة القامع، وارتضى بدور المفعول به، العاجز والقانع، فاختزل معنى الحريّة الغائبة في حريّته الشخصيّة، ليهرب وقتما سنحت أولى الفرص، لكنه لم يدرك آنذاك، أننا قد نقدر على اتخاذ قرارٍ بمغادرة الأوطان، لكننا لا نقو على طرد الأوطان منا…

هكذا، وبينما يُمرّر سالم ناجي أيّامه في آزاتسي، منتظرًا قبوله كلاجئ، يسقط في دوامات الاستدعاء، كأنما أراد أن يبدد الوحدة الراهنة بونس المقيمين في حجرات ذاكرته، وهكذا؛ نقرأ رواية كاملة تدور في دماغ شخصٍ قبل بالعيش على الهامش، ولم يحقق في حياته نصرًا وحيدًا سوى تدخين الحشيش، والفتوحات السريريّة مع كل من ارتضت به عشيقًا…

تتداخل الوجوه والمطارح، ويعلو موج الحنين إلى مكان غادره صاحبنا بمحض إرادته، نشاهد ليبيا في حقبة الثمانينيّات والتسعينيّات، وقتما كانت جماهيرية الأخ القائد تضع اللبنة الأخيرة في السياج المسوّر لعقل الشعب المخطوف، هذيانات ثوريّة، إشاعات مضحكة تقابل بالقبول والتصديق، محو ومسخ للهويّة، مجزرة في سجن بوسليم، حاشية تكدس الملايين، وبسطاء يراقبون بعضهم البعض، وعالم يغض البصر عما يجري، طالما المصالح متآلفة، والغنائم مقتسمة.

رواية ذات سرد متشظٍّ، مقسوم بين زمنين بترتيب غير محكم، كبندول ساعة يراوده العطب من آنٍ لآخر، لغة جميلة لا تخلو من التجريب والبلاغة، تزاوج بإحكام واقتدار بين رشاقة قلم الصحافي، وريشة الأديب ومحبرته، لا يؤخذ على عنصر اللغة هنا سوى عدم تدقيقها أو تحريرها من قِبل الناشر…

ناجي سالم ناجي، مواطن عربي مهزوم يحب الحشيش والنساء كسائر بني قومه، نجح في الحصول على وشاح اللاجئ السياسي، فهل نال بصك لجوئه السلامة والأمان، (وهما أقصى غايات المواطن العربي ) فبات له من اسمه نصيبًا؟ شخصيًّا؛ أشك!

ختامًا، دأب العرب على تشبيه الوطن بالأم منذ الأزل، لكن أوطان العرب -في واقع الأمر- لم تستحق يومًا قداسة الأم، الأم لا تطرد أبناءها، ولا تتنكر لهم، ولا تنبذهم، ولا تشجعهم على الرحيل، إلا لو كانوا “أبناء حرام”. فإذا استدعينا من أعرافنا البدويّة والقبليّة تلك الحقيقة، وفنّدنا مزاعمنا تجاه أمومة الأوطان، أفلا يحق لنا أن نسأل: أي أم تلك التي لا تلد إلا سِفاحًا؟
الإجابة عن هذا السؤال، تجدونها في آزاتسي، وفي مئات النصوص العربيّة الأخرى.

قرأت الرواية في إطار جدول قراءات نادي صُنّاع الحرف، وكنت أتمنى حضور الكاتب كم وعد مسبقًا…

#محمد_سمير_ندا

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ