في محبة حيدر حيدر…

قضيتُ شهر رمضان غارقًا في عوالم حنا مينه، اكتشاف تأخر كثيرًا لكاتب عظيم حوّل مآسيه إلى منتج أدبيّ لم يزل راسخ الحضور، وأحسب أنه سيعيش حتى يلامس الخلود.
وكم أخجلني عندما جعلتُ ألوم أصدقائي السوريين، إبّان قراءتي لرواية “حكاية بحار”، وهي أول ما أقرأ لهذا الأديب الفريد، إذ لم يلفتوا انتباهي قبل ذلك إلى هذا العالم الفريد الذي دخلته كمن يكتشف قارة أطلانطس الغارقة في خيال المؤرخين، فكان ردهم “لم نتوقع أنك لم تقرأ له، فهو في سوريّة كنجيب محفوظ في مصر!”
شعرت بالتقصير، وبأنني خذلت العم حنا الذي لم أعرف اسمه إلا من خلال بعض الكتب في مكتبة والدي منذ ربع قرن، لكنني قررت أن أقدم له اعتذاري بقراءة كل ما تيسر من مؤلفاته، وهي كثيرة جدا بالمناسبة، خلال شهر رمضان.

والآن ماذا أقول؟ كانت تجربة آسرة ملهمة، عوالم واقعية لصيقة بالوجع، رصد صادق لمعاناة المهمشين، وتشريح دقيق يضع جسد سوريّة تحت المجهر، ثم يرصد تفاصيلها وتغيراتها وتقلباتها، وندوب تركتها تواريخ بعينها. في عوالم حنا مينه؛ الحياة صراع بين الإنسان والبحر، الرجل في مواجهة الطبيعة، والبشر في مواجهة مع القدر، ولكن، ما أكثر نوّات القدر، وما أغدر الموجات، وما أخبث البشر حين يخونون البحر ويخوّنون القدر.

تجربة ثرية، مفيدة ومؤثرة بذات القدر، خصوصًا عندما تعمّقت في القراءة عن حياة هذا الرجل الذي عاش قرابة قرن من الزمن، ومعاناته ومآسيه ومبادئه وبساطته، وصولاً إلى وصيّته التي أتركها في نهاية هذه الكلمات.

ربما أعود للكتابة عن واحدة من رواياته بالتفصيل، وأقربها إلى قلبي حتى الآن حكاية بحار، ونهاية رجل شجاع، ولكنني الآن أمارس التجوال مجددًا في مدائن ميلان كونديرا، بعدما غادرت عوالم حنا مينه مصابًا بدوار البحر…

ختامًا، أترككم مع وصيّة العم حنّا (١٩٢٤-٢٠١٨)، التي ستبوح بكثيرٍ مما استغلق، أو استعصى عليّ:
{أنا حنا بن سليم حنا مينة، والدتي مريانا ميخائيل زكور، من مواليد اللاذقية العام ١٩٢٤، أكتب وصيتي وأنا بكامل قواي العقلية، وقد عمّرت طويلًا حتى صرت أخشى ألا أموت، بعد أن شبعت من الدنيا، مع يقيني أنه “لكل أجل كتاب”.
لقد كنت سعيدًا جدًا في حياتي، فمنذ أبصرت عيناي النور، وأنا منذورٌ للشقاء، وفي قلب الشقاء حاربت الشقاء، وانتصرت عليه، وهذه نعمة الله، ومكافأة السماء، وإني لمن الشاكرين.
عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألا يُذاع خبر موتي في أية وسيلةٍ إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، فقد كنت بسيطًا في حياتي، وأرغب أن أكون بسيطًا في مماتي، وليس لي أهلٌ، لأن أهلي، جميعًا، لم يعرفوا من أنا في حياتي، وهذا أفضل، لذلك ليس من الإنصاف في شيء، أن يتحسروا عليّ عندما يعرفونني، بعد مغادرة هذه الفانية.
كل ما فعلته في حياتي معروفٌ، وهو أداء واجبي تجاه وطني وشعبي، وقد كرست كل كلماتي لأجل هدف واحد: نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض، وبعد أن ناضلت بجسدي في سبيل هذا الهدف، وبدأت الكتابة في الأربعين من عمري، شرّعت قلمي لأجل الهدف ذاته، ولما أزل.
لا عتبٌ ولا عتابٌ، ولست ذاكرهما، هنا، إلا للضرورة، فقد اعتمدت عمري كله، لا على الحظ، بل على الساعد، فيدي وحدها، وبمفردها، صفّقت، وإني لأشكر هذه اليد، ففي الشكر تدوم النِعم.
أعتذر للجميع، أقرباء، أصدقاء، رفاق، قُرّاء، إذا طلبت منهم أن يَدَعوا نعشي، محمولًا من بيتي إلى عربة الموت، على أكتاف أربعة أشخاصٍ مأجورين من دائرة دفن الموتى، وبعد إهالة التراب علي، في أي قبر مُتاح، ينفض الجميع أيديهم، ويعودون إلى بيوتهم، فقد انتهى الحفل، وأغلقت الدائرة.
لا بكاءٌ، لا لباسٌ أسود، لا للتعزيات، بأي شكلٍ، ومن أي نوع، في البيت أو خارجه، ثمّ، وهذا هو الأهم، وأشدد: لا حفلة تأبين، فالذي سيقال بعد موتي، سمعته في حياتي، وهذه التأبين، وكما جرت العادات، منكرة، منفّرة، مسيئة إلي، استغيث بكم جميعًا، أن تريحوا عظامي منها.
كلُّ ما أملك، في دمشق واللاذقية، يتصرف به من يدّعون أنهم أهلي، ولهم الحرية في توزيع بعضه، على الفقراء، الأحباء الذين كنت منهم، وكانوا مني، وكنا على نسب هو الأغلى، الأثمن، الأكرم عندي.
زوجتي العزيزة مريم دميان سمعان، وصيتي عند من يصلّون لراحة نفسي، لها الحق، لو كانت لديها إمكانية دعي هذا الحق، أن تتصرف بكلّ إرثي، أما بيتي في اللاذقية، وكل ما فيه، فهو لها ومطوّب باسمها، فلا يباع إلا بعد عودتها إلى العدم الذي خرجت هي، وخرجت أنا، منه، ثم عدنا إليه}

اقرأوا لحنا مينه، ولا تتناسوا إرثه الأدبي العظيم…

#محمد_سمير_ندا

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ