ثورة الهامش على المتن في بار الفخراني…”بين الحقيقة والطوفان”

من يقرا لأحمد الفخراني، الذي أعدّه أحد أهم الكتاب المصريين المعاصرين، يتوجّب عليه أن يدرك أنه أمام نصّين، أولهما ظاهر ومباشر هو الحكاية المروية، وثانيهما النص المتواري خلف الطبقة المعلن عنها من السرد، وإن كانت حكاية رواية الفخراني الصادرة حديثًا عن دار الشروق في ١٥٢ صفحة، تتمحور حول حكاية الكومبارس الصامت نوح الرحيمي، وسعيه الحثيث بغية الخروج من الظل إلى النور ولعب دور البطولة، سواء تم ذلك على الشاشة الفضية، أو فوق مسرح الحياة، فالحكاية تنطوي على ابعاد أكثر عمقًا، وأعظم قدرة على كشف الستار عن واقع مجتمع المديوكرز الذي بات يتصدر المشهد الثقافي والفني حسب أحداث الرواية التي يمتد بعدها الزمني من مطلع القرن الحالي حتى الزمن الراهن.

النوستالجيا وسينما/زمن الهبوط والتردّي

حالة النوستالجيا حاضرة بقوة في هذا النص، بداية من العنوان الذي يمهد لهوس أحد الأبطال بوردة وأغنياتها، وبائع الروبابيكيا ومقهى بعرة، وعدة تفاصيل أخرى تحيل القارئ إلى غرف مغلقة في ذاكرته. أما أسماء الفصول، فإذا تتبعنا عناوين الأفلام السينمائية التي عنون بها الكاتب الفصول الفرعية داخل فصول رئيسة ثلاثة، سنجد أنها تعكس ما أراده الكاتب من رصد دقيق لحالة التردّي التي سيطرت على الفن في فترة رواج هذه الأفلام، كما أن عنونة الفصول بهذه الطريقة تضع القارئ على مقعد خشبي متهالك في إحدى سينمات الترسو، أو السينمات الصيفية، أو اي من دور العرض الشعبية من ذوات البروجرام ثلاثي الافلام.
أراد الكاتب بهذه الطريقة إذن أن يهيئ للقارئ مسرحًا مكانيًّا متخيّلاً يقصّر المسافة بينه وبين عوالم النص الذي تتمحور حكايته الظاهرة حول كومبارس صامت، وباستثناء استخدامه لعنوان فيلم “عفوًا أيها القانون”، وإن كان مناسبًا للإطار الحكائي، فقد كانت كل عناوين الأفلام المستخدمة قادرة على ترسيخ حالة الارتباط بين النص الظاهر ودلالاته الضمنيّة، فيكفي أن يقف القارئ على عناوين أفلام ممنوعة مثل “ذئاب لا تأكل اللحم، و”سيدة الأقمار السوداء”، حتى يدرك براعة الإسقاط المقصود بهذه العنونة.

رقصة استربتيز متباينة الجودة والإيقاع

بتقنية تتفاوت درجاتها بين السذاجة المفرطة والذكاء الحاد، يعرّي الفخراني مجتمع المثقفين من خلال شخصية نوح الرحيمي، ذلك الكومبارس الصامت الذي وضعته الصدفة على أفيش فيلم مشهور، فيعقد العزم على أن يجرب أدوارًا تعرف لغة غير الصمت الرهيب، ليصطدم عكس ذلك بسطوة سادة لا يسمحون للهامش بالتعدّي على متونهم، ولا للفراغ الذي يمثله نوح بالتوغّل في عوالمهم ذات الأطر البرّاقة اللامعة، بيد أن نوح الذي يعرف المذلة على أيادي هؤلاء السادة الذين قرر هو أن يجعل منهم سادة الثقافة والفنون، يعود بعد عقود ليعرّي هذا المجتمع الزائف، دون أن تشغله فكرة تعرية نفسه التي تلذذ هؤلاء بتعريتها منذ زمن، فيمارس عرض استربتيز جماعي، عرض قسري يجبر فيه سادة مجتمع المديوكرز على التعري أمام مرآة حقيقته، وعلى مرأى القراء جميعًا. هكذا، ومن خلال شخوص تم اختيارهم بعناية فائقة، الصحفي والكاتب والقاص والمصور والحقوقية والرسام وصاحبة البار وزوجها المتصالح مع الحياة في ظل زوجته، ليعكس كل منهم شريحة محددة من أوساط المثقفين والفنانين، فيعرف القارئ أن الفارق بين الهامش والمتن جد ضئيل، وأننا لم يعد لدينا في أوساطنا هذه متون حقيقية صادقة؛ إذ هو زمن المديوكرز! ولا يفوتني هنا أن أشير إلى أن للأسماء دلالات قوية تتراوح بين الواقع المفضوح والإيهام، لكن اختيار اسم نوح، مع مشهدية النهاية، يوحي بالكثير، وهو ما سأشير إليه لاحقًا في هذه القراءة الانطباعية غير النقدية.

ثيمة البحث عن الحقيقة بعينيّ رجل صغير

منذ بداية الهزة النفسيّة التي أصابت نوح الرحيمي عقب تعثره في محاولات العبور من هامش الحياة وظلها إلى متون البطولة حيث الضوء ساطع لا يخفت حسب ظنه، تشغله مرآة عتيقة يسميها مرآة الحقيقة، إذ أنها لا تعكس على زجاجها صورة الشخص الواقف أمامها بقدر ما تصوّر له الحقيقة، ولأن نوحًا كأي إنسان ترعبه مواجهة حقيقته، يتخلّص من المرآة بذات الطريقة التي حصل عليها بها.
عقب ذلك ينجذب نوح إلى جماعة مجلة “باب الحقيقة”، وهي مجلة محدودة الانتشار تواجه صعوبات في التنويل ولا تستمر كثيرًا. اعتقد نوح أن باب الحقيقية هي بوابته السحرية للعبور من الهامش إلى متن الحياة، لكنه، ولفرط سذاجته آنذاك، لم يعرف أنه يطرق بابًا لا يقبع وراءه إلا الزيف والخداع وتزاوج المصالح، وعندما يلج إلى محرابهم مخفيّا حقيقته كمؤسس وممول لجماعة الصمت الرهيب -تلك الثلة من الكومبارسات الذين تصورا بإيعاز من نوح أنهم يمتلكون فرصة الظهور والاشتهار- تلطمه جماعة باب الحقيقة بكشفهم لهويته، لتطعنه الحقيقة بخنحر هوان لا يمّحي ولا يمكن نسيانه إلا بثأر عظيم.
وفي هذا الصدد، لا يفوتني أن أشير إلى اعجاب نوح بما يكتبه رئيس تحرير المجلة من نصوص يعرض من خلالها مقاطع من كتاب “خطاب إلى الرجل الصغير” لعالم النفس النمساوي فيلهلم رايش، وما ينطوي عليه ذلك من ثنائية ضدية تضع الاعتراف بالضآلة في مواجهة مع الرغبة في التحرر من ظلها الثقيل.
وفي النهاية، حين تحين لحظة الانتقام والتعري وفضح المستور كله، تظهر مرآة الحقيقة التي استعادها نوح بعد سنوات العناء وتقييد الحرية مرورًا بسنوات الانطلاق والثراء والتخطيط للانتقام، لتكون المرآة بمثابة بطلة جديرة بوضع بصمتها على مشهد الفينالة.

وظيفة الأدب وتوظيفه

في بار ليالينا، كان البحث عن التحقق والحقيقة ساريًا وراء الحدث الظاهر بطول الرواية، وكما كان بحث هارون بطل “إخضاع الكلب” عن ذاته وإخضاعها ينساب برويّة في ما وراء السطور، تتكرر لدينا ذات الحالة السردية التي يتقنها الفخراني، فيبحث نوح وغيره من المنتسبين إلى أوساط المديوكرز عن حقيقية ما، بيد أن الحقائق الزائفة أو المختلقة تنهار الواحدة تلو الأخرى أمام مرآة الحقيقة.
ولأن وظيفة الأدب معنيّة بطرح الأسئلة وسبر الغور المكنون في النفس البشرية وتقصّي أثر الزمان والمكان على وجدان البشر، فإن رواية بار ليالينا كانت نموذجًا للأدب الجاد المهموم بالقضايا الكبرى، علاوة على براعة باتت معتادة من الكاتب في فن التكثيف والإيجاز بطريقة تخرج بها سرديته في أقل عدد ممكن من الكلمات، وأكثر حشد وارد من الأفكار.
على سبيل المثال، نحن نعرف أن لنوح الرحيمي زوجة وأبناء (لاحظ عزيزي القارئ ما يتم تمريره هنا عن فوضى الكراكيب وشجاعة التخلي في بيت نوح)، ونعرف وظيفته الأساسية كموظف في شركة أدوية حكومية فاسدة الإدارة (هنا يتأكد القارئ أن نوحًا لا تحركه أية مبادئ ولا تسوقه غير رغبته في الانتقال من الهامش إلى المتن)، ونعرف أنه قضى سنوات في السجن، بيد إن ما يقدمه الفخراني حيال هذه المنعطفات والمكونات الرئيسة لشخصية نوح، لا يتعدى حيز الومضة الكاشفة الموجزة، التي تبلغ القارئ بالمعلومة ليكمل الصورة في رأسه، قبل أن يجذبه إلى حكاية نوح الكومبارس ومحاولات عبور مخاضه إلى نور الحقيقة، من دون أن يشعر القارئ أن ثمّة أمر منقوص في حكاية نوح.

الدلالات والتأويلات، بين واقعية سحريّة وواقعية لصيقة بالأرض

هكذا، وعلى الرغم من هذا القدر من الحشد والتكثيف للأفكار ونماذج الشخوص التي لا تحوي في أغلب أعمال الكاتب شخصًا يقترب من مدارات المثالية، فقد قرر الفخراني أن يطرز حكايته بحيل تقنية عبر المراوحة بين الواقعية اللصيقة بالأرض -وأعني هنا عوالم الكومبارس والبارات والبعد المكاني الذي اتخذ من القاهرة مسرحًا للحكاية، ثم جعل من البار بؤر الحدث المختارة دوامة تجتذب الداخل إليها فلا يقو على الخروج منها- والواقعية السحرية التي مهد لها في الفصل الأول، قبل أن تعود بكثافة طاغية في مشهد الختام، الذي يكرر فيه نوح حكاية الطوفان العظيم، لكمه في هذه المرة كان طوفانًا من مياه الصرف العامرة بالخراء، قبل أن يتبع ذلك بمواجهة الشخوص لذواتهم أمام مرآة الحقيقة. كنت قد أشرت سابقًا إلى اختيار اسم نوح، وتشابه سيرته مع سيرة الكومبارس من حيث تلقي الإساءة والاستهزاء من الجميع قبل أن يهيه الله معجزته وطوفانه، مع اختلاف الموعِز والموعَز إليه، يظل التشابه واضحًا من البداية حتى النهاية. الأهم هنا هو أن الفخراني نجح في خلق هذا المزيج السردي ببراعة أحالتني إلى روايته بياصة الشوام.
كذلك، فقد كانت رحلة الخديعة التي وقع فيها نوح ابتدأت من جوار ضريح الكواكبي، وهذه دلالة أخرى واضحة عن امتداد أثر الاستبداد لعد كل هذه القرون، أما عن بقية التأويلات والإسقاطات والتفاسير والدلالات، فحدث ولا حرج، إذ يكفي أن أشير إلى أن هذا الرواية عرضت في ما يشبه شريطً وثائقيًا قصيرًا، وقائع تاريخية هامة بداية من حادثة الكوين بوت، مرورًا بثورة يناير، وصولاً إلى رصد آثارها من خلال رحلات صعود المديوكرز، واستحواذ فئة بعينها على منصات الضوء والاشتهار.

ختام

رواية فلسفية صادمة وجريئة، تقدم هجاءً محتد النبرات إلى أوساط المثقفين والفنانين، وترصد قاهرة انسحب منها سكانها إلى قبو اختياري يمارسون فيه حياة بديلة، حياة زائفة تجعل من أنصاف الموهوبين أبطالًا لمتون الحياة وصحف أخبارها، ولا تترك لمن فُرضت عليه الهوامش موضع قدم، كما أنها تنطوي على نبرة تحريضيّة خفيضة تدعو ساكني الهامش على العبور من الظل إلى النور، بيد أن شدّ من يلفت النظر حيال هذا النص، عقب قراءته، هو اختزال الهوة بين الهامش والمتن في دروب الحياة، وكأن هذا النص يصرخ أمام مرآة حقيقتنا؛ كلنا زائفون، كلنا كاذبون، على غرار المشهد الخالد لأحمد ذكي في فيلم ضد الحكومة، حين قال “كلنا فاسدون”.
تنتهي الرواية إذا وقد تساوت الرؤوس واتضحت الصورة الحقيقة لهذه العينة المنتقاة من هذه الأوساط المسماة بالنخبة، لا فارق جليّ بين الصحفي ونوح، ولا بين نعمات والناشطة الحقوقية، ولا بين التشكيلي الذي ينكر أبوته لابنة من صلبه، وزوج نعمات صاحبة البار المستقيل طواعية من وظائفه الذكورية، فكل الرؤوس سواسية، مغمسة في قذارة الواقع الذي تعكسه مرآة حقيقتنا.

اقرأوا لأحمد الفخراني، فهو كاتب مصري ينبغي أن نقدر كتابته، ونحتفي بها ونباهي.

ملحوظة ١: كنت أتمنى ألا يكشف الغلاف الخلفي للرواية عن عودة البطل للانتقام عقب عشرين سنة، فقد كان ذلك ليوسّع من مساحات التشويق والتخيّل لدى قارئ يتعرف على أدب الفخراني للمرة الأولى.

ملحوظة ٢: الغلاف المدرج هنا هو بتصرف من كاتب هذه الكلمات مع كامل التقدير للغلاف الأساسي والعاملين عليه،

محمد سمير ندا

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ