معارك نغم حيدر الخاسرة: شظيّات وحكايات تلتمُّ لتحاكم النظام الأبوي…

ينهض المنطق الأبوي المنبثق من النهج البطريركي على منح حق السيادة والهيمنة للذكر الرئيس ضمن جماعة من الناس، هذا الذكر الرئيس قد يكون رب الأسرة، وقد يكون المعلم، وربما يكون القس أو الشيخ، وقد يكون الحاكم ذاته.
وفي مجتمعات العالم الثالث، ارتضت الشعوب بتأدية طقوس الانبطاح الطوعي تحت عباءة السلطة الأبوية للحاكم، والالتزام بشرائعه وأحكامه، ومن ثمّ القبول بتوريثه السلطة لنسله من بعده، ومنحه حرية تصرّف مطلقة في توزيع الأقدار والأرزاق، وحتى أتصبة الموت والحياة.

من هذه الزاوية على وجه الخصوص، طالعتُ خسائر نغم حيدر في ثلاث قصص جاءت تحت مسمى “رواية”، وهو تصنيف سليم، حيث أنني -وعلى الرغم من انقطاع الرابط السردي الظاهر بين القصص الثلاث التي جاءت كل منها منفصلة في عوالمها وبشخوصها- فقد وجدتني أمام بناء روائي متكامل، وإن كان قد شيد بطرائق غير شائعة، حيث أننا أمام نص لا يحوي نسقًا تصاعديًّا تسوقه حبكة واحدة (صريحة)، ولا تتوجه ذروة واحدة، بل هو أشبه ببركان خامد ذي ثلاث فوهات تفجرّت وفاضت بجرّة قلم.

الخسارات الثلاث تدور في فلك الهزيمة التي تتحقق بين الراوي المتكلم (وهي التقنية المستخدمة في القصص الثلاث وساهمت في وحدة النص) وممثل السلطة الأبوية، مع اختيار لحظة اندلاع الثورة كنقطة متجمدة من الزمن، تتوقف عندها الحكاية المكتوبة، لكي تبدأ تتمتها في عقل المتلقي.
وبهذا تعارض النغمة السورية الحزينة في هذه الرواية ما جاءت به نوال السعداوي التي انتحت تجاه التفسير الأنثروبولوجي الأميركي للأبوية (أو البطريركية) حين قالت أن التناقضات تتفشى في النظم الأبوية، فتنتشر الازدواجية في كل شيء، ويدفع ثمن هذا التناقض المحكومون لا الحكام، والنساء لا الرجال، والطبقات الكادحة وليست الطبقات العالية، فالخاسر أمام السلطة الأبوية القاهرة في حكاياتنا هنا هو الإنسان، متمثلًا في شخصيّة نسائية في الحكاية الأولى، قبل أن يتجسد في هيئتي رجل وشاب في الحكايتين الثانية والثالثة. لذا؛ فالخسارات هنا ليست حكرًا على النساء.

في الحكاية الأولى نطالع صراعين في آن واحد، صراع الراوية مع الأم (السلطة الأبوية المنزلية)، التي تحاول أن تحول بينها وبين والتظاهر بثقة العارفين بمصالح أبنائهم، وهو أمر شائع عرفناه جميعًا في مراحل مختلفة من عمرنا. لكن الصراع الأشد وطأة والأكثر خطورة هو صراع الراوية (مي) وأصدقائها، مع النظام الأبوي الحاكم، الذي، شأنه كشأن كل النظم الدكتاتورية، يواجه شعبه مدعوما بحق الثواب والعقاب. الذكر الرئيس هنا، أو المعادل البطريركي في الحكاية، هو الحاكم، والراوية هنا تخوض حربين خاسرتين تنتهيان بهزيمة واحدة، ينسدل فيها الستار على ثورة تتأجج في الصدور، وخذلان يوثق حتمية الخسارة.

أحببت كثيرًا الصورة الضدّية بين الأم (هدهد) والعمّة في هذه الحكاية، وأسرتني لغة الراوية التي تسربت إلى بقية الحكايات على رغم من تباين الرواة.

في الحكاية الثانية نشاهد ماكيتًا مصغرًّا للحكاية الأولى. نتعرف إلى بهاء الدين؛ الرجل الذي قرر الهزيمة أمام أبيه كما تستسلم الشعوب للطغاة، بينما يمارس الأب المتسلط سلطته الأبويّة كما يليق برئيس إحدى دول العالم الثالث. يبرع الراوي هنا في النقش على الرخام، يمارس حريته في فعل الخلق ويرى البشر كمجموعة من الحروف، بيد أن ظل الأب يحجب عن حياته النور منذ الصغر، الأب الذي اختار أن يعيش كل مرحلة من حياته كما أراد، وعرف ألوان المتع كلها، ثم آثر أن يختار لولده لونًا واحدًا لا يحق له أن يرى غيره، شق له مسارًا محددًا لا يقدر على تغييره، أو هذا على الأقل ما ظنه كلاهما.

ترتعش الأرض وقد بلغت نشوتها تحت أقدام الثوار، يرتعد الإزميل في يد الراوي، تهتز الصور كلها، تحتشد في عقله كل الصرخات التي كتمها لعقود، ويشاغله طيف فتاة تجذبه بقوتها وقدرتها على الفعل، المتمثل هنا في التظاهر كمرادف لحرية تقرير المصير، والشبّ عن طوق الحكم الأبوي، وتمزيق الثوب البطريركيّ بغية معاينة الحياة التي حُجبت وراء ظل الأب.
لدينا هنا بطل تبتدئ حكايته بعد ثبوت الهزيمة، لكن نسائم الحرية المندفعة من حناجر الرافضين تدفعه إلى الوقوف على عتبة التحرر، قبل أن يمنح للقارئ الحق في تقرير المصير.

مشهد الختام هنا عبقري، إذ يستشرف نهاية الأب الرئيس، ويمنح القارئ أملا بأن إزميل بهاء الدين عرف أخيرًا كيف يشق لصاحبه طريقًا بعيدًا عن مسالك أبيه.

في الحكاية الثالثة نشاهد مرحلة أخرى من مراحل الخسارة، وهي مرحلة ما بعد الهزيمة. وبطل الحكاية هنا -حسب رأيي- هو الأب “سهيل”، رغم أن الراوي هو ولده “فاضل”، فالحكاية كلها تتمحور حول أثر الهزيمة -هزيمة الأب الشيوعي أمام الأب الحاكم وسجنه لما يناهز عقد ونيف من الزمن- على الابن الذي لم يزل ساخطًا على أبيه، لأنه لم يجده!

الصراع الأبوي هنا يبتدئ بصورة معكوسة، فالابن بكل جموحه يرغب في أن يهزم أبيه، أن يكسره أو أن يمدّ الشرخ في كسوره غير المجبورة، بهذا نستمع إلى صوت مهزوم يرغب في هزيمة خاسر! من دون أن يعي أن الخسارة هي فقط ما يجمعهما، وأن الظالم لا ينام في الغرفة المجاورة، بل في قصر محروس ومرصود كما يليق بالذكر الرئيس في أي جماعات (أو شعوب) سلمت مفاتيح أقدارها للأب الحاكم.

يتمادى فاضل في محاربة أبيه سهيل دون أن يجرؤ على الدخول في مواجهة أو مكاشفة مباشرة معه، يحاول أن يُشعره بضآلته في حضور أم مكلومة لم تعد تميز عدد الخسارات في حياتها. ثم تهب ريح التغيير، وتستجد أمور، ليعرف الراوي أن هزيمته لم تكن يومًا بيد أبيه وإن ورثها عنه، فينطلق نحو أفق مصبوغ بلون الوفاق، كفرس ينهض من عثرته، ليعلن رفضه للخسارة، وإن تأخر عن الركب.

مشهد النهاية في هذه الحكاية من المشاهد التي تعد عصيّة على النسيان.

ختام:
ثلاث حكايات تبدو في ظاهرها منفصلة، إلا أنّها وثيقة الصلة في جوهرها، فهؤلاء الرواة الثلاثة، مي وبهاء الدين وفاضل، إذا ابتعدنا عنهم وسلطنا عليهم الضوء، سنجد أن لهم ظلًا واحدًا، ظلٌ يرفض الخضوع للنظام الأبوي.

رواية مهمة ومختلفة في بنائها، لكاتبة تبهرني مرة أخرى بعد أعياد الشتاء. دفقة صادقة من المشاعر أفرزتها حربٌ قطعت الخيط الحريري في مسبحة الأمل، فانفلتت حباته واستقرت كل منها أسفل جدار مهدم، رواية تتناول نتاج الحرب السورية من دون أن تنقل صورة الحرب، إذ هي ترصد البدايات، ثم تستشرف أثر النهايات.
اقرأوا لنغم خيدر، فلحكاياتها أنغام شجيّة تسرُّ السامعين، وإن كانت مواويلها تنزّ بالوحشة والوجع، فهي لا تترك أبواب الأمل موصدة…

شكرًا نغم، شكرًا هاشيت أنطوان، وشكرا للصديق نبيل مملوك الذي حفزني بمقالته عن الرواية ذاتها، لكي أكتب عنها قبل أن تتراكم فوق صفحاتها حكايات وحيوات جديدة.

محمد سمير ندا

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ