آيات محمد موافي…مقامات وشذرات في نزف الروح، ومآل المهاجر الأبدي…

تقديم

هذه هي قراءتي الرابعة لأعمال الكاتب المصري محمد موافي، كتبت في السابق عن سفر الشتات، وهو عمل محكم لا يمكن لقارئه أن يستنبط كونه العمل الأول لكاتبه، ثم قرأت -بصعوبة وعناء- روايته الأشهر حكاية فخراني، والعناء والصعوبة هنا لا يعكسان صعوبة العمل بقد ما يدللان على صغر حطم الفونط المستخدم في مطبوعات دار الشروق آنذاك، الأمر ذاته تكرر في رواية يونس ومريم، لكنني كنت محظوظًا بما يكفي لأنال ثقة الكاتب في قراءة المخطوطة قُبيل نشرها، ثم جاءت آيات عاشق، روايته الأحدث الصادرة عن دار العين هذه المرة، في ٤٨٤ صفحة، لتمثل حجر زاوية تتبلور من خلاله -مرة أخرى- هموم كاتب منشغل بتقصي مصائر الغرية ومآلات الهجرة بشقّيها، الهجرة إلى الخارج، والهجرة إلى الداخل، وكيف يلتئم الشقّان على اغتراب مرير، سرمدي.

مقاربة أم اشتباك وجداني؟
لا أعرف مدى صحة المقاربة، لأنني لست من دارسي النقد الأدبي، لكن أسلوب كتابة آيات عاشق أحالني لا إراديًّا إلى مقامات الحريري وبديع الزمان، ولأن المقامة لها عناصر ثلاث تتمثل في الراوي، والمرويّ عنه (أو المكدي حسب لغة أهل الاختصاص)، ثم الحبكة التي تسرب التشويق على دفعات متأنّية محسوبة بين ثنايا النص (والحكاية هنا لابد وأن تنطوي على ثمّة أسطورة)؛ فقد كانت في حكاية عاشق أكثر من نقطة تماس مع ذلك الصنف العربي غير المطروق حديثًا في الأدب الروائي، وإن حرص موافي على ترك بصمته الخاصة عبر إدراج المقاطع السردية في نقاط مرقّمة خلال الفصل أو المقامة الواحدة، منوّعًا بين طول المقاطع من دون الخروج عن مسار الحكاية، فبعض المقاطع تأتي في سطر أو أقل، وبعضها يطول لصفحات.
أما المقاطع الطويلة فقط جاءت في صلب الحكاية، وأما الشذرات العابرة التي ارتدت عباءة الحكمة والتعقيب، فقط نقلت إلى القارئ صوت الراوي الأول، أو أحد وسطاء الحكي (وهو ما سيتم عرضه لاحقًا)، أو صوت المؤلف نفسه، وإذا كان تسرب صوت الكاتب إلى الحكاية يعد في العموم مثلبة تنتقص من قيمة النص كحكاية متخيّلة، فإن الأمر ذاته لا يعدُّ هنا كنقيصة، ذلك لأن الكاتب قدم نفسه منذ البداية كأحد الوسطاء الذين ينقلون الحكاية الأصلية عبر ترجمتها ونقلها كما وصلته، كما أن المسرجة تراوده بدوره لتحثه على استبيان وبعث الحكاية.
إضافة إلى ما تقدم، فقد طرز موافي ثوب حكايته بعدة صفحات من قصائد النثر الرائعة التي وردت في أكثر من موضع، خصوصًا على لساني ماري، وابنها وضّاح.

وسطاء الحكاية، بين الأسطورة واستنطاق الجماد من شهود العيان…
يقدم الكاتب حكايته منقولة عن أكثر من لسان توارثوها وتناقلوها، وهو شأن التراث العربي المنقول برمته.
يحصل الكاتب على مسرجة عتيقة (مصباح زيتي كما يظهر على الغلاف)، مرفقة بكتاب باللغة الإيطالية، من بائع روبابيكيا، وبترجمة الكتاب الذي كتبه شخص يدعى ألبرتينيو فيرو (العنوان الفرعي للرواية) يتعرف الكاتب على حكاية أسرّت بها المسرجة إلى الإيطالي الذي جاب العالم، في مستهل القرن التاسع عشر، متقصيًّا ما نُقل إليه منها عن سيرة هرِم بن عبد الله الظفاري بين اليمن والإسكندرية وإزمير، وكيف اسكرته نشوة الكشف، وغشاه نور الحقيقية فورما وقف على صحتها، وصدق المسرجة.
في الوقت ذاته تُقرر المسرجة أن تقتحم بأصواتها دماغ المؤلف الذي يقرأ ترجمة الكتاب الإيطالي، فمنحته بذلك حق التدخل، وإن لم يعلن عن ذلك صراحة إلا في مستهل النص.
هكذا يضع الكاتب الأمانة بين يدي الجماد، كأنه يقرُّ بأن الجماد هو حافظ السر الأمين، وأن البشر ليس عليهم إلا شحذ حواسهم المضطربة والإصغاء إلى ما كل ما جمد من شهود العيان، كل شيء إلا البشر، فلا أخد يزيّف التاريخ سواهم.

استهلالات وأصوات
تبتدى الرواية بصوت راوٍ عليم، يقدم موجزًا مغالطًا لما كانت الحكاية لتنتهي إليه لو كان في الأرض حاكم عادل، ثم يعود ويقر بأن كل ما رواه للتو محض هراء، بطريقة ذكرتني بساراماجو حين يحكي الحكاية ثم يعود لينقض صحتها بعد سطور بالنفي أو التعديل. يُشرع الكاتب صفحاته عقب ذلك لتلاوة الحقيقية عقب مقدمات قصيرة للكاتب نفسه كشخص ترجم كتاب فيرو لدى أحد مكاتب الترجمة، ثم للإيطالي ألبريرتينو فيرو نفسه، وللمسرجة ذاتها.
والحكاية هنا يتناوب على تلاوتها راوّ عليم مراوغ، ثم بطلها هرِم الظفاري، ومعشوقته ماري، والمسرجة، ووضّاح ابن ماري، وهذا الأخير يستحوذ على الثلث الأخير من الرواية بحيث يحار القارئ إن كان هرِم هو بطل المقامة، أم وضاح ابن ماري ابنة ترتليان الشهيد، وهي حيرة وجدتها محببة إلى نفسي، ووجدت أن هرِم الظفاري، إن كان هو راوي المقامات، فإن وضاح هو المرويّ عنه، وهو، شأنه كشأن عبد الله ابن شقيق هرِم، هو بطل الأسطورة.

هجرات تتوالى، وحرية تتلخص في كلمتين ثقيلتين عن لسان العباد…
لن أخوض في تفاصيل الأحداث ومساراتها بما يفسد متعة القراءة لمن يقرأ كلماتي هذه، ولكنني سوف أورد أهم محاور الحكي في إيجاز حذر.
في زمن انتشار المسيحية ومحاربة ملوك اليهود وأتباع الأرباب الأُخر لانتشارها والتنكيل بمن يتبعها، قبل ظهور الاسلام، يرحل هرٍم الظفاري – الذي يؤمن بدين أجداده صوريًّا من دون القبض على صحيح الإيمان ويقينه- عن وطنه خوفًا من حاكم جائر (هجرة إلى الخارج).
توازيًا؛ في زمان ومكان مغايرين، تهرب ماري المسيحية عقب التنكيل بأبيها وتشريد عائلتها في إثر اعتناقهم للمسيحية، وتسلم نفسها لنوّات من التيه حتى تجد نفسها أمًا لا تعرف لابنها أبًا غير طيف راودها إبان السبات فبذر في جوفها نبتة صبي، تهرب ولا تخطو خارج أسوار مدينتها أملا في وصال من بقي حيّا من أسرتها (هجرة إلى الداخل)، وعقب موجات متتالية من مد الغربة ونوبات الرحيل، تلتقي شعاب هرِم وماري، فيحلمان بحياة تعوض كل منهما عما فاته في مسالك التيه، لكن إرث الماضي الثقيل، وما يستجد من أمور في حياة الظفاري، وخوف ماري، كانت أمور حالت بينهما وبين استدامة الحلم الأخضر البرئ، فتتفرق السبل على أمل واهن بلقاء يجمعهما بعد تبدل الأحوال واستتاب الأمور.

عبر محاور الحكاية وتحولاتها، يمرر الكاتب فكرته الرئيسة، التي سربها بادئ ذي بدء في اقتباس التصدير على لسان كامو، حين قطع بأن وجود المرء في عالم غير حر، يقتضي منه أن يكون حرًا، ليكون وجوده في حد ذاته هو العمل الثوري الأنبل، وإذا تتبعنا حبكات الرواة ومعطيات مآسيهم، سنجد أنها تتمحور حول بؤرة ثابتة رغم تباين الزمن والمكان، فوراء كل مأساة حاكم ظالم، لذلك تتبدل المسارات وتبقى الغربة راسخة في قلوب الرواة، لتعمّر المسرجة التي أسمتها صاحبتها ماري “لوزة”، عوضًا عن الزيت. وكما يرد في صفحة ١٥٥، يقول الظفاري، أو ربما هو الكاتب نفسه؛
{الوطن القريب لا يزال بعيدًا بسبب ظلم حاكمه}
الإسقاطات والتأويلات هنا لا سقف لها ولا حدود، لكن الكاتب كان من الذكاء والحيطة بأن سلم مفاتيحها للقارئ، ولم يبح بها علانية.

مهاجر أبدي، ولدان ليسا من صلبه، يسيران في دربين تلتقيان عند حافة الألم…
تتناول الرواية العديد من مظاهر استباحة دم وعرض المسيحيين في زمن الحكي، تحاول على لسان الظفاري والطلياني فيرو أن توحّد بين الآلهة تحت عباءة سماء واحدة جامعة، تنبذ الفرقة وتوحد الصف وتسلط الضوء على بشاعة الإكراه في الدين لا لهدف سوى مد أمد الجلوس في عروش القوة والاستئثار بالسلطة، باسم الله وباسم الوطن وباسم الشعوب…
وكتحقق لنبوءة نطقت بها عرافة عجوز لهرم الظفاري، يجد هذا الأخير نفسه أبًا لولدين بحكم المسؤولية والأمانة، وبأمر الهوى؛ وضّاح ابن ماري، وعبد الله ابن أخيه الثامر. هذان الشابان يعملان بمبدأ كامو الذي لم يجرؤ على تطبيقه لا هرم الظفاري، ولا حبيبته ماري، كلاهما سيقول (لا)، حرفان بسيطان قضى العاشقان عمرًا مديدًا في تيه وشتات مخافة النطق بهما، ثم يأتي جيل جديد شاب، يقرر أن يمارس الحرية من خلال هذين الحرفين، لا، وكفى.
كتابة تحريضية بديعة تتخفى وراء الطبقة الظاهرة من السرد، تراوغ القارئ بين الجهر والسر، لكنها تستوقفه عقب نهاية الرواية ليتأمل طويلا، ويعقد مقارنة بين جيل هرٍم الظفاري وأبوه وماري بنت ترتليان، وجيل عبد الله بن الثامر ووضّاح ابن ماري، كلاهما تمسه شعلة الإيمان، وكلاهما يصرخ (لا) في وجه حاكم جائر، كلاهما يبلغ مسالك النور، فلا يحسب حسابًا لعاقبته، فلا يخش السيف، ولا الرمح، ولا نيوب السباع.

مسيح موافي
أحببت كثيرًا معجزة ميلاد وضّاح كأنه مسيح جديد، بيد أن مسيح موافي رفض ربه في البداية، وحمله مسؤولية وصفه بابن الزنا على الرغم من يقينه بطهر أمه في زمان ولادته، لكن الرب الذي يحب أبناءه لا يحمل ضغينة تجاههم، فتتنزل المعجزات على وضّاح لتمنحه ما يليق بسير الأنبياء وأبطال ألف ليلة وليلة، هكذا غزل موافي شخصية وضّاح على نول الأسطورة، مستقيًا أجواءها من أساطير الأنبياء ومن الموروث الحكائي العربي على حد سواء، أما شخصية عبد الله، آخر من قال لا، فعلى الرغم من قصر مساحتها السردية فقط جاءت متممة للجانب المنقوص في وضّاح، فالأول اختار النور منذ أول فرصة، والثاني سلك كل مسالك الظلمة حتى مسه ضياء الحقيقة.
شخصيتي هرِم وماري استحقتا أن تخلدهما المسرجة، وكم كان فيرو أمينًا، وتلاه موافي، في نقل هذه الحكاية المتخيلة إلينا في هذه الصورة الرائعة.

آيات موافي
في النهاية، أرى أن هذا النص يصرخ بأن من قال لا ينال الخلود، أما من يتلعثم فلا يجهر بها، فمصيره التيه والشتات، وغربة تغرس أنيابها في خاصرته فتدميه، لتمر السنون، فلا يتوقف الجرح عن النزف، حتى يصرخ النازف المطعون (لا).
كانت تلك هي آيات محمد موافي المتلوة بتجويد شجي في ما وراء السطور، أما العاشق هنا فهو غير مكلف بعشق امرأة في صورتها المادية المختزلة، إذ أن المرأة هنا تظل أقدس تعبير عن الوطن بعيد المنال.

ختام
لغة موافي تواصل الرسوخ في الأدب المصري المعاصر، جاعلة منه أحد أفضل من يطوّعون العربية ويزخرفونها بالعُرب البلاغية من دون السقوط في فخاخ التقعر، في الألفية الجديدة.
كتب موافي روايته بلغة تنتمي إلى زمنها بحنكة وبراعة لا يجيدهما إلى روائيّ مكين، كما أن “النفس الصوفي” الذي يميّز كتابات موافي في العموم، يظل حاضرًا بما يناسب الحكي، وإن أنكر هو ذلك 🙂

عمل مهم، ممتع، مرهق، دسم، ولكن أفضل ما يقدمه، كما أكرر دائمًا، أنه يعيش في عقل القارئ، يحرضه ويشغله كثيرًا، بعد قراءته، وليس فقط خلال القراءة.
كانت هذه حكاية مختلفة لا يمكن أن تنسى في أمد قريب.

شكرا أستاذ محمد موافي

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ