سنان أنطون: “سأموت واقفًا على أفكاري”

يحلّ المبدع العراقيّ الكبير سنان أنطون ضيفًا على القاهرة، برعاية مكتبة تنمية – Tanmia Bookstores، منارة القاهرة الثقافيّة، مساء الجمعة ١٧ يونيو، وهي فرصة عظيمة للقراء المصريين لاستكشاف التجربة الروائيّة والشعريّة لهذا المبدع العربي، والاستماع إلى حكاياته التي لم يروها بعد…

من يتصفّح أوراق سنان أنطون بغية تقصّي واستبيان ما يجيش في صدره من وجع، وما تعجُّ به دماغه من أصوات وصرخات وعويل، يجد أنه – كحال بعض رفاقه من حملة الأقلام العراقيين – يبرع في نقل صور، هي أشبه بومضات موجزة كاشفة، لبغداد، سواء في زمن الحلم القصير، أو وفي أزمنة الخراب اللانهائيّة.

لم يجنح سنان إلى كتابة أدبيات الرحيل ومعاناة المهاجر في الأوطان البديلة، لكنه أختار أن يضخ حبره من آبار الوجع العراق، لذلك فإن حكاياته إما عن عائد، وإما عن مقيم؛ كلها تهيم في شوارع العراق وأزقّتها، حتى حين ينقل شخوصه خارج الحدود، يظل العراق مسرح الحكاية.

كما أن المتأمّل في ما يكتبه سنان، يدرك حجم الجهد الذي يبذله لنبذ الفرقة بين الطوائف العراقيّة، فهذا الأمر يؤرقه للغاية، لذا فهو يبذل جلّ طاقته للتقريب بين المذاهب، وخلق حالة من الوحدة بين الجميع، إذ يؤمن أنطون أن العراق، سوف يتعافى – فقط – عندما تتآلف القلوب، وتتوحد النوايا، وتصفو الضمائر، فتنصهر الأطماع المتوارية خلف شعارات المذاهب تحت علم لم يزل يرفرف فوق نخيل العراق.

بيد أن أكثر ما يميّز تجربة سنان، حسب رأيي، علاوة على الحسّ المرهف، والعين اللاقطة، والنهنهة المسموعة بين الأسطر، هو قدرته على فتح نافذة وراء كل بيت مهدّم هجرته حيوات ساكنيه، ووراء كل عين شهدت وعرفت، وأدركت الحقيقة.

كذلك؛ فإن إصرار سنان على استخدام اللهجة العراقيّة في المقاطع الحواريّة في كل رواياته، على الرغم من اعتراض البعض على الأمر نظرًا لعدم شيوع اللهجة العراقية، لا يدل إلا على التشبث بالأصل، والرغبة الصادقة في أن تصل رسالته هو، عن وطنه هو، بلغته هو، إلى كل أرجاء الأرض.

الأمر الذي أعدّه حسب رأيي ضمن أهم العناصر التي لفتت انتباهي إلى أدب سنان أنطون، وسبّبت احترامي لقلمه.

شاعر ينظم الروايات، أم روائيّ يؤلّف القصائد؟

أعتقد أن ما منح سنان أنطون هويّته الخاصة، التي تجعل القارئ يتعرف على خطه في أوراق كتاب نُزع عنه غلافه -إضافة إلى ما سبق- هو قدرته المتفرّدة على نقل شهادات الشخوص والموجودات على حد سواء، علاوة على زفرات الشعر التي تتسرب من قلمه إلى بنيانه السردي.

من يقرأ “وحدها شجرة الرمان”، يتعرف عراقٍ الذي استبدل جواده (جواد سليم)، بجواد المغسلجي، الذي قصفتْ أحلامه قنابل القدر العنقوديّة، فأجبرته على الركض فوق ما طبعته أقدام أبيه من خطوات لم يقدر على استبدالها. يتحول جواد إلى مغسلجي مهمته هي تغسيل أجساد الموتى، وهي المهنة الوحيدة التي لم تؤثر عليها الحرب، ولم ينل منها كساد الحصار، ومع تعدّد طرائق الموت، يتابع القارئ حكاية الوطن، وحكاية شجرة الرمان، التي تظل وحدها عارفة وحاضنة لسر الحكاية، وحدها باقية تعاين البلاء والخراب، وتتغذى على ماء الغسل الذي لا ينضب، لأن الموت بات البضاعة الأكثر رواجًا في وطن مزّقت أشلاءه الحروب، وتقاتل عليها الفرقاء.

أما “يا مريم”، فعلى الرغم من اختزال البعض للحكاية بين قوسيّ التوثيق لحادث انفجار الكنيسة الشهير، فواقع الأمر أن هذا النصّ يضعنا أمام حلمين متضادين، حلم التشبّث بجذور الوطن، وحلم التعلق بأقرب فرع تذروه الريح خارج الحدود، لكن الموت، والموت وحده، يظل قادرًا على توحيد الضدّين، كأن أهل العراق قد اقتتلوا واختلفوا على كل شيء، فلم يعد شيء يقدر على توحيد صفهم سوى الموت.

حكاية باكية مبكية، كتبت بالدمع لتستجلب الدمع. هي مرثيّة وطن قبل أن تكون وثيقة إدانة لاضطهاد الأقليات والفتنة الطائفية.

المشهد الأخير في هذا النص يظل عصيًّا على النسيان.

ومن يقرأ رائعته “فهرس”، آخر رواياته الصادرة عام ٢٠١٦، يسقط طواعية في شرك أجاد الكاتب نسج خيوطه منذ البداية، فيظن كل قارئ أنه أمام شبكة معقدة من الأمكنة والأزمنة والشخوص، إلا أنه لا يلبث أن يستبين أنه ما بين يديه ليس سوى خيط واحد، خيط طويل مجدول يروي حكاية واحدة وإن تباعدت جغرافية المكان وتعددت نبرات الصوت. في هذا النص البديع يستنطق سنان سائر الموجودات، يستدعي الشهود ويُؤنْسنها، فنتعرف على آثار الحرب من منظور الجماد الصامت الذي يمنحه الكاتب فرصة الحكي لأول وآخر مرة، هكذا نستمع إلى حكايات عن الحرب يقصها علينا الجدار والتنور (أي الفرن) والعين (البشرية) والجنين والمخطوط وألبوم الصور، جاعلًا لكل موجود منطقه الخاص، وتاريخه الشخصيّ الضارب في تراب الزمنبيد أن سنان يستهل فهرسه هذا ويختتمه بمنطق الطير، ليخلق بذلك حالة بديعة من التناص مع كتاب فريد الدين العطار، وطيوره الباحثة أبدًا عن طائر اخترق -كما الحلم- آفاق الواقع، وتركها تطارد سرابه مُطارَدة بمئات التأويلات التي ينثرها القراء فوق هوامش العطار.

أما الطائر الذي انشغلت شخوص سنان بمطاردته، فهو يرمز إما إلى السلام، أو إلى الله، وأما الهدهد الحكيم الذي جعل ينصح الطيور ويلقنها الحكمة، فقد غادر العراق منذ التسعينيّات، بعدما حرق النابالم ريش جناحيه.

وفي روايته الأولى “إعجام”، يتقصّى سنان أنطون أثر مخطوط كُتب بحروف غاب عنها التنقيط، كتبه طالب عراقيّ في سجون صدام بعدما اعتقله الزبانية بتهمة ازدراء الزعيم المُفدّى، أو السخرية منه.

في هذا النص، الذي يذهل القارئ كونه العمل الأول لكاتبه، نكتشف مساحة الجنون التي تسكن قلم الشاعر، وجرأة التجريب والثورة على المألوف التي يحاول الروائي المتمرّد ترويضها، علاوة على السخرية المريرة التي تنزّ من لسان رجل مرهق، مطعون في وطنه وحلمه.

وتلك في رأيي هي المكونات الرئيسة التي تنهض عليها تجربة سنان أنطون برمّتها.

بعد مراوغات وانزياح تدريجي لستار مسرح الحكاية، نعرف أن الألفاظ والمفردات في رواية “إعجام” قد راوغت عقل القارئ والرقيب على حد سواء، فتخفّت وموّهت حروفها ومعانيها، فالقاعد هو القائد، والسخافة والإيهام هما الثقافة والإعلام، وحزب العبث هو حزب البعث، والبعصيون هم البعثيون، والديموضراظية هي الديموقراطية، والاستمناء الشعبي هو الاستفتاء الشعبي، وعاهر المملكة هو عاهلها، أما عنوان الرواية؛ إعجام، فهو: إعدام!

نص يعبر عن حالة جيل، تشظّي واجتزاء وبعثرة أوراق ربما تحيّر القارئ الميّال إلى تقنيات السرد المعتاد (الرواية صدرت أول مرة سنة ٢٠٠٣)، بيد أن النص في مجمله يعد نصًا متماسكًا يبوح برسالته بلغة وتقنية تليقان بزمن الحكاية، بكل ما شهده من عبث وتغييب للعقل.

الكتابين الشعريّين لسنان أنطون يحويان شذرات تنسج على ذات النول الذي يغزل عليه الكاتب حكاياته. صور ومقاطع سردية وومضات شديدة الحساسية والعذوبة، أنصح كل قرّاء سنان أنطون بالمرور بين صفحاتها، قبل وبعد، وفي أثناء قراءة رواياته.

سنان أنطون

الحكّاء العراقي، الشاعر والروائي والمخرج ومترجم أشعار سعدي يوسف ومحمود درويش، الذي ولد في العراق عام ١٩٦٧ ويقيم حاليًا في الولايات المتحدة، يعد واحدًا من أهم الكتاب العرب المعاصرين، وعلى قلّة إنتاجه الروائي (الذي توقف لسبب غير معلوم منذ ست سنوات)، تظلّ رواياته بمثابة علامات فارقة سيؤرّخ لها وبها بعد سنوات.

هو سفير نموذجيّ لوطنه، ليس لما ترشّح له أو ناله من الجوائز، وليس لأنه نال درجة الدكتوراة من هارفارد، بل لأنه إنسان يحمل وطنه بين جوانحه، يكتب كأنه ينزف، وينظم الشعر كأنه ينشج، مرويّاته تقطر بالحنين، غادر ولم يرحل، وسافر فلم يبتعد، يجدّد ويطوّر، ويجرّب، لكنّ حقائبه التي يحملها معه أينما مضى وحيثما حلّ، تحمل قطعة من أرض العراق…

أهلا وسهلا سنان أنطون… نورت وطنك الثاني يا معوّد 😇

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ