حكاية السيدة إيناس حليم، التي تُسقط القُرّاء في الحفرة!

لا يمكنني الوثوق في موقع جودريدز بعد اليوم، فهذا المزار القرائيّ الذي أحجّ إليه تقريبًا كل يوم لمعرفة الجديد في عالم القراءة، يدّعي أن كاتبة هذه الرواية لم تكتب رواية قبلها، أو بمعنى أدق، لخطأ تقنيّ غير معتاد، يقول موقع جودريدز أن الكاتبة كتبت من قبل مجموعتين قصصيتين، جاءت إحداهما بالمشاركة مع كاتبة أخرى، كما أنها كتبت بعض الحكايات بالعامية المصري، أما “حكاية السيدة التي وقعت في الحفرة”، فإن جودريدز يظهرها كالرواية الأولى والوحيدة للكاتبة حتى الآن، وهو أمر لا يمكنني تصديقه.

حجر الأساس…

ميرفت أحمد شحاتة، هل كان أحدكم ليتذكر هذا الاسم قبل قراءة الرواية؟ عن نفسي لم أتذكره، وإن كنت قد سمعت بالحكاية بذات الطريقة التي عرفتها بها “شادن” راوية الحكاية، حيث سمعتها من الجدات والعمات والعجائز، وسمعتها على لسان أبي في أحد صالوناته الأسبوعية منذ زمن لا أذكره، فما هي حكاية هذه السيدة؟ امرأة شابة، ضخمة البنية، كانت برفقة زوجها أنور سعيد في أحد ليالي صيف 1973 حين انشقت الأرض وابتلعتها: بهذه البساطة! امرأة انفلتت كفها من يد زوجها الذي كان في زمن الحادثة نقيب الصحفيين في الإسكندرية، ولم يقدر أحد على نجدتها، أين جرى هذا؟ في شارع النبي دانيل الذي لم يزل حاضنًا للأسطورة حتى اليوم. كيف تفاعلت الجهات الرسمية مع الأمر؟ أنفقت الدولة (في سنة 1973) ثلاثين ألف جنيهًا على عمليات حفر الشارع والبحث عن الأنفاق والسراديب السرية التي تركها البطالمة في جسد الإسكندرية منذ قرون، وما النتيجة؟ لا شيء! إذ أن ميرفت أحمد شحاتة لم يعثر على جثمانها حتى اليوم، ولا يجتمع الناس على رأي ولا خبر في شأنها، فهي -كانت ولم تزل – الفتاة التي ابتاعتها الحفرة العجيبة، والفتاة التي اختطفها أمير الجان المدعو نمرود، وهي الفتاة المخطوفة التي تقفّت الشرطة أثرها في إثر رسالة استغاثة وجدت في أحد شوارع إدكو في ما بعد، وهي الفتاة التي راحت ضحية عملية ثأرية تفذتها الزوجة السابقة لزوجها عبر ابنهما الأكبر، ولكنها -أي ميرفت- تظل حتى اليوم، ملتحفة بغياب أسطوري، ومقبورة في عقول العامة كفتاة تسرّبت من حكايات ألف ليلة.

أيّة حكاية تلك التي ترويها إيناس حليم؟ وأي حفرة تحثُّ القارئ على تذكّرها؟

من المنطقي أن تكون حكاية ميرفت الجاذبة وباقية الأثر موضوعًا مثاليًّا لكاتبتنا ابنة الإسكندرية، لكنها تتخذ من حكاية عروس الإسكندرية مدخلاً لطوفان من الحكايات الموازية، تجعل من قصة ميرفت حبلاً مشدودًا من حبال لاعبي السيرك، ثم تسير فوقه ببراعة وحنكة، حاملة فوق رأسها عشرات الحكايات التي ترويها إبان المشي فوق الحبل الرفيع. ترتد الحكاية إلى لحظة وصول عبد الحافظ رضوان إلى الإسكندرية، وفي ذراعه تتعلّق معشوقته ميري، بعدما هربا من صعيدٍ ما كان ليقبل بزواج مسلم من مسيحيّة، كان التعصب آنذاك محصورًا في الأقاليم والقرى على ما يبدو، أما اليوم، فقد توغل كسرطان في كل خلية من جسد المحروسة، فحكاية عبد الحافظ وميري، التي خلّفت فضيحة لأسرتيهما في الصعيد، كفيلة اليوم بخلق حرب طائفية لو أعيد انتاجها، والشواهد كثيرة في صفحات الحوادث، ينجب العاشقان أربعة بنات وصبي؛ نور الهدى ونوارة ونبيلة ونسرين ونائل، تعرف أن نور الهدى هي أم شادن راوية الحكاية (راوية بالوكالة بالأحرى)، كما نعرف أن نائل يعمل في الخليج ويعيش ميسور الحال، ثم نشاهد الخالات الثلاث في أكثر من موضع خلال حالات الاستدعاء التي تراود شادن، بيد أن إيناس حليم آثرت إبعادهن عن مسرح الحكاية قدر استطاعتها -باستثناء نوارة- لانعدام تأثيرهن على مجريات القصّ، وهو ما وجدته منطقيّا، إذا أن الواحد منا لو كتب حكايته، لعبر الكثير من أقاربه فوق سطورها عبور الكرام، وربما كما الضيوف ثقيلي الظل.

آبار الحكي التي لا تنضب…

نور الهدى هي أم شادن، وهي مٌدرسة في كلية الآداب، متخصصة في الميثولوجيا، لكن خيالها لم يمكنّها من كتابة حكاية عروس الإسكندرية على الرغم من كونها نموذجًا في الميثولوجيا الحديثة وفي كيفية صناعة الأسطورة، تكلف نور الهدى ابنتها -دارسة الإعلام – أن تكتب هي هذه الرواية في عام 2002، ولا تمنحها خيطًا واحدًا من خيوطها، فتشرع شادن في البحث والتقصي بين أرشيف الصحف وأدراج الموظفات الحكوميات، وقد كانت الحكاية مثار اهتمامها مذ قصّتها عليها الجدة “ماما ميري”، حدّ أن ميرفت أحمد شحاتة، كثيرا ما تسللت إلى أحلامها، حتى قبل الشروع في كتابة الرواية. كان لدينها هنا عدة روافد لمنبع لحكي، ماما ميري وحكاياتها التي لا يسقفها الواقع ولا يؤطرها المنطق وتظل على ذلك قريبة إلى العقل والهوى، ونور الهدى، الكاتبة العظيمة كما تسميها ابنتها، من خلال مذكراتها التي تختلس شادن عدة قراءات لصفحاتها المخبوءة.

إسكندرية مختلفة…

هكذا نلبي نداء إيناس حليم، نمشي وراءها لنشاهد الإسكندرية من زاوية لا تشبه إسكندرية ابراهيم عبد المجيد، ولا إسكندرية علاء خالد (لا أعرف لماذا لم أكتب عن رائعة علاء خالد متاهة الإسكندرية حتى الآن؟)، ولا إسكندرية محمد جمال الدستوبية الطابع، إسكندرية إيناس حليم عروس ثكلى، ترتدي طرحة مغبرّة، وتتشح برداء ملآن بالحفر والثقوب، حوافة مطرزة بحروف وطلاسم غريبة، رموز الأساطير ولغة العارفين بما تحويه صحف الغيب، لقد دشّنت الكاتبة حكايتها بحشد كم هائل من الأساطير التي تحتل نسبة كبيرة من الوجدان الشعبيّ الوعي الجمعيّ، لكن الثقوب التي جعلتها في رداء الحكاية، تحوّلت إلى حفرٍ قادرة على جذب القارئ للنبش والبحث عن أصول لكل هذه الحكايات الموروثة. الأسطورة هي نطفة الخلق الأولى كما تُعلن هذه الرواية، سواء ما ورثناه منها، أو ما غزلته إيناس حليم فوق نولها الخاص، زيارة المنجّمة التي أطلعتها على مكامن الأسرار، حكاية فريد وأسرار راوية، قصة العمة ياقوتة التي أعتبرها شخصيًّا من أهم مواطن القوة والمتعة في هذه الرواية، حياتها في تركيا وفي الإسكندرية، وسجادتها التي لم تكتمل كما لم ينبت في رحمها الأجنّة، وعطورها وصابونها وزيوتها (بالمناسبة؛ لا أتفق مع وصف صنوف الصابون المرتبطة بروائحه بكلمة نكهة كذا ونكهة كذا، لأن الكلمة مرتبطة بفعل التذوق، والصابون في نهاية الأمر لا يؤكل)، حكاية الخالة نوّارة التي سكنتها روح شريرة حتى زارها الشيخ، حكاية الطفل كارم الذي يأكل الحجر والقماش، وكف الشوكولاتة الذي ظل راسخًا على الحائط ليذكر أبناء خالاته بجريمتهم في حقه، الأحلام والرؤى التي تراود شادن، والأطياف كثيفة الحضور. لقد نسجت الكاتبة إذن لوحة آسرة لإسكندرية أخرى، إسكندرية واجمة ترقد فوق أطلال الأساطير والسراديب المنسيّة منذ قرون.

الأسطورة في مواجهة الواقع…

في الثلث الأخير من الرواية، تخلق الكاتبة مواجهة أشبه بالمبارزة بين الأسطورة والحقيقة، فأسطورة عروس الإسكندرية التي تقصّت شادن أثرها وانشغلت بها طيلة الوقت، تقف في مواجهة مع مقالات مفيد فوزي في مجلة صباح الخير حول ذات الحادثة، ومع وقائه أخرى شديدة الخطورة والحساسية، إذ يكفي أن تمرر الكاتبة معلومة كهوية الزوجة الأولى لأنور سعيد، زوج ميرفت الذي اختلفت في شأنه آراء الشهود وأهل زوجته المحبوسة في سراديب الخيال، فالحقيقة أن طليقة أنور سعيد هي السيدة رشيدة مهران، مدرسة الآداب، الصديقة المقربة لياسر عرفات في السبعينيات والثمانينيات، والتي كتبت عنه كتابًا وصفتها فيه بالإله، كما كان رسم الفنان ناجي العلي الذي سخر منها لكونها عضوة في منظمة التحرير الفلسطينية، سببًا في اغتياله كما يرجّح البعض. لكن إيناس حليم لا تسقط هنا في فخ فرض الحقيقة، إنما تمنحك المعلومات والأخبار وتوثقها، ثم تترك لك كقارئ حرية ربط الأحداث ببعضها، أو نفي شبهة اتصال أحدها بالآخر، فهل كان لطليقة أنور سعيد علاقة باختفاء الفتاة البسيطة ميرفت أحمد شحاتة التي كانت تصغر زوجها بعشرين سنة؟ إيناس حليم لن تخبرك بالإجابة، لكنها ستترك لك مجموعة من المفاتيح، وقفل واحد صدئ!

التقنيّة والألاعيب السردية…

نحن أمام نوع من أدب الميتافيكشن، كتابة راوية داخل رواية، لكن الميتافيكشن هنا ينعكس فوق أكثر من مرآة كبيت المرايا، زاوجت الكاتبة ببراعة بين الواقعي والأسطوريّ، بين الموروث الميثولوجي والمُختلق كليًّا، غرست شخصياتها الخيالية في جسد الحقيقة بأناة وإتقان، فجعلت من شادن وعائلتها جزءً من حكاية ميرفت أحمد شحاتة، فالجدة “ماما ميري” شاهدة عيان رأت ما جرى من نافذة بيتها في شارع النبي دانيال، وكانت هي الشاهدة الخيالية التي لم يستجوبها مفيد فوزي في تحقيقاته البارعة في هذا الشأن. ولأن الحكايات الشفهيّة الموروثة منبعها قصص الجدات، فقد شيّدت الكاتبة حكايتها -بكل مصداقية- فوق ألسنة النساء، ودارت بكاميرتها الدقيقة حول مآسيهن وقصصهن، من قوت القلوب، الكاتبة محدودة الخيال، الأم القاسية، والزوجة المنهزمة في علاقتها بالزوج الفنان المنفلت (شخصية الأب هنا تبدو هاربة من رواية علاء خالد متاهة الإسكندرية بالمناسبة)، والتي تفرغ شحنات الهزيمة في صغيرتها شادن، قبل أن تعود وتكلفها بكتابة الرواية التي عجزت هي عن كتابتها، محاوِلة أن تجبرها على رؤية العالم من خلال عينيها هي، شخصية ماما ميري الحكاءة الثرية الحكايات، شخصيتي ياقوتة ونوارة، ثم شادن نفسها، بما عانته من جفاف أمومة نور الهدى، وقصة حبها المبتورة، ومحاولتها للعثور على نفسها من خلال البحث عن حقيقة واحدة، قبل أن تدرك أن البحث في حد ذاته، أهم من العثور على حقيقة جليّة مؤكدة.

ختام…

حكاية ممتعة، سرد متدفق لا يفقد وتيرة التشويق الثابتة طوال صفحاته، نصّ يحوي توثيقًا دقيقًا، سواء لحادثة عروس الإسكندرية، أو للعشرات من الخبريات والقصص المنتمية إلى زمان القصّ، نسج محكم للشخصيّات الرئيسة، قبض قوي على مفاتيح الحكاية، وفرار أنيق من تهمة فرض الحلول على لغزٍ لا يمكن استبانة حقيقته، وربما لا ينبغي لنا أن نتوقف أمام اللغز في حد ذاته، فعروس الإسكندرية المختفية رمز لم يزل متعلقًا بأذيال الزمن المضارع، لا يمكن طيّه في خانة الماضي طالما ظل أثره باقٍ وممتد.

الحفرة التي سقطت فيها ميرفت أحمد شحاتة لم تزل مفتوحة، جائعة ومشرعة على المزيد من الأساطير، فالأساطير مخدّر ممتد المفعول، وما أحوج الشعوب إلى ما يخدّرها. والحفرة كذلك تمثل رمزًا للعجز، وانعكاسًا لضيق ذات اليد ومحدودية القدرة على الفعل، وبساطة نسيان الفرد في مقابل التقديس الدائم للأسطورة.

الحفرة التي سقطت فيها ميرفت شحاته كانت واضحة على الأقل لشهود العيان، لكن الرواية تحفل بعشرات الحفر الأخرى، الحفرة التي سقطت فيها نور الهدى، والحفرة التي اجتذبت زوجها، والحفرة التي ابتلعت ياقوته، والحفرة التي ابتلعت نوّارة، والحفرة التي ابتلعت كارم، والحفر التي تتفاداها شادن، أما الحفرة الأكبر، الشبيهة بعلامة استفهام ضخمة، فهي تلك التي يسقط فيها القارئ في نهاية هذا النص، فحياة كل منا مليئة بالحفر، الماضي حفرة، والإخفاق حفرة، والوحدة حفرة، الأسطورة حفرة، والواقع حفرة، ينهض المرء منا من عثرته كل مرة وهو على ثقة أن تلك الحفرة لم تكن الأخيرة، الأمر الأغرب هنا، هو أنني عندما سقطت في الحفرة التي صنعتها لي إيناس حليم، لم تعد لدي الرغبة في العودة إلى العالم الذي تركته خارجها.

عمل روائي أول – لو صدق جودريدز – مذهل، آسر وممتع، يحوي فلسفته الخاصة، ويزاوج بين الواقع والأسطورة بحرفية كاتبة مخضرمة، ليقدم رسالة شديدة الأهمية، تتنوع وتتلون بين يدي كل كقارئ حسب خلفيّته، وأيدولوجيته، وتجاربه الخاصة.

بكل صراحة، لم أر في الهجوم على هذا النص على تطبيق أبجد إلا نوعًا من الغيرة الأدبيّة، وبكل أسف، يبدو أن من يتبنى هذا الأمر من المحسوبين على الوسط الأدبي.

شكرًا للكاتبة إيناس حليم، ولدار الشروق، هذا النص سيفوز بجائزة هامة، تذكروا كلماتي هذه…

ملاحظة تقنيّة: استمعت إلى بعض فصول الرواية عبر تطبيق إقرأ لي – حيث أنني كنت أقرأ الرواية حسب المكان والوقت متنقلاً بين النسخة الورقية ونسخة أبجد والنسخة المسموعة – ولهذا أود أن أوضح أن الفارق بين تطبيقيّ ستوري تيل، وإقرأ لي؛ جد عظيم، ستوري تيل يسبق إقرأ بسنوات ضوئية!

#محمد_سمير_ندا

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ