في متخف ريمس

هذه النوفيلّا رائعة بحق!
تصوروا معي رجلاً يفقد بصره تدريجيًّا في إثر مرضٍ لم يعالج جيّدًا في مرحلة مبكرة. يعرف الرجل أنه ماضٍ إلى ظلام كلّيّ، بعدما أمضى شبابه جنديًّا في البحريّة عرف زرقة البحر ومختلف ألوان الصخر والسمك والطير، فيقرّر أن يختزن القدر الأكبر من الألوان في ذاكرته قبل أن تبيضَّ عيناه.
يتنقّل بارنابا بين المتاحف، يغوص في ألوان اللوحات التي لم يعد يميّز تفاصيلها، باحثًا عن لوحة “وفاة مارا” على وجه التحديد، والتي تصور اغتيال الثائر الراديكاليّ الفرنسي جان بول مارا، لكن بارنابا يتوق إلى رؤية اللوحة لأسباب لا تمت إلى السياسة بصلة، إذ أنه يسعى إلى رؤية مارا الشاب؛ طبيب العيون الذي نجح في إعادة البصر إلى الكثير من المرضى قبل إنخراطه في السياسة، وجنوحه إلى العنف واستباحة الدم.
تجمع الصدفة بين بارنابا وآني، فتاة حسناء لا يكشف الكاتب عن ماضيها، لكنها تكلّف نفسها طواعية بمهمة وصف تفاصيل اللوحات لبارنابا الذي لم يعد قادرًا على تمييز الألوان، تصف لها اللوحات بطريقة مشهدية دقيقة، لكن بارنابا يدرك مع الوقت، أن آني تضيف إلى وصفها بضعة تفاصيل من نسج خيالها، تحذف أو تضيف وجوهًا وألوانًا حسب رغبتها، ليظل بارنابا المسكين أسيرًا بين عجزه عن الإحاطة بالتفاصيل، والاستغراق في تفاصيل بديلة غير حقيقية، تنسجها آني ببراعة فائقة، لكنه على الرغم من ذلك، لا يقدر على الاستغناء عنها.

فكرة بارعة، وسرد آسر تفيض منه الألوان، ووصف بارع ينقل اللوحات إلى الورق، ويستعرض معرفة موسوعيّة بمدارس الرسم الأوروبي، وتنويع بديع بين صوت بارنابا والرواي العليم رغم قلة الفصول وقصر النص! حسب رأيي، هذه الحكاية لا يعيبها إلا قصرها، فهذه النطفة الإبداعية كان من الممكن أن تخرج إلى النور أكثر اكتمالاً ووضوحًا، شخصيًّا، أتمنى أن أمتلك ذات يومٍ الوقت الكافي، والطاقة اللازمة لاستكمال هذه الحكاية، أودُّ لو أتصوّر تتمّة ما للحكاية المبتورة بين بارنابا وآني، أن أفسّر ما دفع آني إلى تزييف التفاصيل في عينين تتأهبان للانطفاء!
ولكن، بمقياس المتعة القرائية، كانت هذه النوفيلّا ممتعة، مؤثرة وثرية، لا أعتقد أنني قد أنساها في وقت قريب….
ترجمة عرفان رشيد للنص كانت رائعة، إذ جاءت وفيّة للنص الأصلي بحيث نقلت إليّ كقارئ روح النص، والحالة النفسية شديدة الخصوصية لبطل لرواية…

المفارقة المؤسفة هنا، هي أن دانيله دي جوديتشه، مؤلف هذه الرواية، قد رحل عن عالمنا منذ ثلاث سنوات إثر مضاعفات ألزهايمر، انطفأت مصابيح ذاكرته تدريجيًّا حتى أظلم الكون فأسلم للسماء روحه، أي أنه -بصورة ما- تنبأ بنهايته!
ولا يمكنني أن أتصوّر نهاية أقسى من تداعي العقل، وتآمر خلايا المُخ على ألبوم الحياة، ثم إسقاط صورها المعلقة على أرفف الذاكرة تباعًا، وصولاً إلى إسدال الستار، والإظلام النهائي…

هذا نصُّ أنصح بقراءته…

#محمد_سمير_ندا

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ