تغريبة القاسمي ورحلة العطش…بين مرادفات الوطن، وظمأ الفرد للأرض، وفِطرة الكُفر بالأنبياء لدى العرب…


تمهيد..

أكبر مفاجآت هذا العام….
فاجأني هذا النصّ في الربع الأخير من العام الماضي، فحزنتُ بقدر ما أسعدتني المفاجأة، ذلك لأنني لم أقرأ للكاتب العُماني زهران القاسمي من قبل، تراكمتْ القراءات وانشغلتُ بكتابة ما فلم أكتب عنه، ثم جاءت قائمة البوكر لتعلن عن تفرّد الرواية كما توقعت، ولتدفعني إلى قراءتها مرة أخرى، قراءة للتذوق، وللوقوف على عناصر القوّة التي تعادل مواطن الدهشة في هذه الرواية البديعة.

العاديّة في رداء الغرائبيّة والتراث الحكائي…

استهلال الرواية يقذفُ القارئ في لجّة الحكاية من دون مقدمات، لدينا غريقة حبلى، أمرٌ وارد الحدوث، خصوصًا في المجتمعات القروية في زمن الرواية، لكن العجائبيّة هنا تتحقّق عندما تُخرج امرأة سكينها وتسحب الجنين من بطن أمه “مريم”، فور أن تدرك أن دلائل الحياة قابعة في جوف الموت. هكذا يولد سالم، أو “ود الغريقة” بمعنى ابن الغريقة، وينشأ في كنف قريبة أمه “كاذية بنت غانم” وأبيه “عبد الله بن جميل”.
تنهضُ بنية الغرائبيّة في هذا النص على التواصل بين الإنسان والطبيعة، فالغريب هو ما يتشكّل من عالم خارج عن المألوف، وكذا العجيب من الأمور، إذ هو خوضٌ في ما يجهل الناس من الأمور، لذلك فإن وصفي هنا لبنية حكاية القاسمي بلفظين كالغرائبيّ والعجائبيّ، إنما يمهّد للقارئ وينبهه إلى أنه بصدد الخوض في غمار حكاية تنهض غرابتها على الإيهام، والإيهام كلما علا محلقًا خارج أطر السائد والمعقول؛ تحوّل إلى المادة الخام لكلمة “إبداع”.
يكشفُ الإيهام هنا عن وجهه مبكرًا، فيتسلل بدايةً من خلال الأصوات التي دأبتْ على مناجاة مريم بنت غانم حتى قادتها إلى قاع البئر، ثم عادت لتناجي ولدها سالم، وإن جاءته في صورة مغايرة لا تُفضي مباشرة إلى الهلاك، بل لتجعل منه نذيرَ خيرٍ وقافرًا يَقفرُ (أي يتقصّى) منابع الماء المطمورة في جسد الأرض الجدباء، لتنسدل خيمة الإيهام على المشهد الروائيّ، مؤهلةً القارئ للخطو فوق عتبة الحكاية.
شبّ سالم مُبشّرًا بالماء، مضى بين الناس يحمل خصائص الأنبياء، فهو ابن مريم، وهو محلّ سخرية قومه، إذ عانى وصبر كما يليق بالأنبياء، وحين تحقّقت كراماته وثبتتْ نبوءاته، آمن القوم به وقدّسوا قدرته، حتى ذاع صيته الحسن وسيرته الطيبة بين القرى، فهل تتوقف قصّته على عتبة التحقّق والفوز باعتراف قومه بقدراته الإعجازيّة؟

تقنية الراوي العليم، والخط التصاعدي للزمن…

لم يكن من الممكن أو الجائز -حسب رأيي- أن يعتمد الكاتب تقنية أخرى لحكايته غير تقنية الراوي العليم، كما أن زمن حكايته الذي جاء تصاعديًّا، تتخلّله بضعة استدعاءات لقصص موازية -جاءت لترسخ قيمة الموروث الحكائي في فضاء المكان الروائي- كان موفقًا للغاية، فالحكاية ثريّة ولا يلزمها الكثير من التنوّع في تقنيّات السرد، وطبيعة المحكيّ عنه تتناسب مع اعتماد كرونولوجيّة الزمن في الرواية، تمامًا كما وردنا في القصّ السماويّ المقدس، وكما سمعنا من جداتنا الحكايات عن أبطال السير الشعبية.
كان من اللافت أيضًا اختيار الكاتب تمويه زمن الرواية حتى لا يحتجزها بين قوسيّ التاريخ المعلن، مُكتفيًا بالقيام بدور الحكّاء الشعبيّ الجوّال في مرابع طفولتنا؛ إذ نصب خيمته في زمان قديم، ثم راح يقصّ على الناس الحكاية، كأنه يستهلها بالعبارة الخالدة جلّابة السحر والشجون: كان ياما كان، في سالف العصر والأوان، كان هناك ولد اسمه سالم…..

تصاعد الأحداث وتطور الشخوص…

لم تنته حكاية سالم القافر فور اعتراف قومه بقدرته على الإصغاء إلى صوت الماء الجاري في أرحام الصحاري، إذ يشرعُ في التجوال بين القرى كما الوليّ صالح، ليكرّر معجزته عشرات المرات، فكل أرضٍ يصيبها الجفاف يهرع ساكنوها إليه، فيأتيهم ليعيد الخضار إلى قفار ربوعهم، ويرّدهم من كهوفهم إلى ديارهم من جديد.
اعتاد سالم أن يرافق أبيه في هذه الرحلات، إذ كان أبوه متعلقًا به، مؤمنًا بمعجزته، لكن الأرض تغدر بعبد الله بن جميل فتبتلعه بينما هو ينقب عن فلجٍ من أفلاج الأرض المطمورة، لتبلغ الراوية ذروتها بتلاوة الأب لوصيّته من تحت التراب، وصيّة تلتقطها أذنا سالم، وتترك فيه عظيم الأثر، فيقرّر فور عودته إلى دياره أن يتوقّف عن الإنصات إلى صوت الماء، وصوت الحياة.
يعتزل “ود الغريقة” الناس ويجد السكينة في أحضان نصرا بنت رمضان، زوجته التي سحرته وضبّبت صفاء سمعه فور لُقياها، لا يهبه الله الذريّة فلا يعترض، وبمرور الوقت؛ تناديه أصوات المياه من جديد، داعية إياه إلى مواصلة رسالته في البحث عن أصل الحياة، وعدم الاستسلام للغط قومه الآخذ في التزايد، وقد ارتدّ معظمهم عن إيمانهم به فور توقّفه عن ممارسة المعجزات، فعادوا إلى عاداتهم، كما يليق بكل قطيع يُسارع إلى نبذ من لا يشبهه، وكم كان سالم مختلفًا، وفريدًا بين قطيع لا يصمد فيه إلا كل همّازٍ، أو مشّاءٍ بنميم.
كانت شخصيّة سالم مؤثرة وملهمة، مُحكمة البناء بشكل مذهل، شخصيّة من لحم ودم تجعل القارئ يحسب أنه يقرأ سيرة حقيقيّة عن وليٍّ طوت صحفه الأيّام، مُقنعة في تطورها وفي نسج خصالها الرئيسة، فابن الغريقة الذي واجه سخرية قومه ونفورهم منه بالصبر والصمت، ينشأ ميّالًا للانعزال، لا يجد في مُرافقة الناس مُستراحه، ولا يأنس إلا بصحبة شخوص بعينهم، شخوص لم يؤذه منهم أحد؛ أبوه، وكاذيـة التي كانت بمثابة أمه، وسالم ود عامور الوعري، ثم زوجته نصرا.
كل شخصية من هؤلاء ستظل عصيّة على نسيان القارئ، فلكل منهم مشاهد وملامح عضّدت من واقعية نصٍّ ينهض على نسيج من الغرائبيّة المغزولة على نول الخيال الشعبيّ القرويّ، علاقة كاذية بالوعري الضاربة بجذورها في عمق الزمن، عشق عبد الله بن جميل لمريم وتيهه بعد فقدها، ووصيته لسالم، حزن كاذية على عبد الله، وعشق نصرا لسالم وإصرارها على انتظاره خلال رحلته الأخيرة، اللانهائية…
الشخصية الوحيدة التي أحببتها ولم أستسغ بتر سيرتها، كانت آسيا بنت محمد، المرأة المخلصة التي أرضعت سالم عقب خروجه من الموت إلى الحياة، وصبرتْ على غيبة زوجها طيلة سنوات؛ كنت أتمنى لو يستمر حضور هذه المرأة حتى النهاية، حتى بعد سفرها إلى زوجها.

المكان السردي، واللغة المحكيّة، وضفائر القصص…

اتخذ القاسمي من المسفاة مسرحًا مكانيًّا لحكايته، والمسفاة مكان حقيقيّ يقع في نطاق “ولاية قريات” التابعة لمحافظة مسقط، الأمر الذي ضاعف من تصوير الحكاية كواحدة من قصص التراث. وكما كانت اللغة ممتعة مغمسة بنفحات الشعر، كان اعتماد العاميّة العُمانيّة في الحوار بين الشخوص مغامرة جنتْ الرواية ثمارها، إذ حققت تقاربًا مفاجئًا بين القارئ العربيّ واللهجة العُمانية بدرجة أكاد أجزم أن القارئ لم يتوقعها.
وكما أسلفتُ أعلاه، أود أن أشدّد على أهمية القصص المتفرّقة التي جدلها الكاتب وزيّن بها مساحات السرد، إذ أنها منحت للنص مرونة إضافية وضخّت الخيال والإثارة بما لا يترك في النص موضع جفافٍ أو شبهة إسهاب.

ثيمة العطش…

العطشُ حاضرٌ في شتّى بقاع الأرض حسب الرواية، والرمز هنا جليّ لا يخفى على القارئ، فكل البلاد عطشى، وكل الناس يبحثون عن مخرج من نفق الجفاف، وكلما قفرتْ وديانهم وطُمرت آبارهم لجأوا إلى الأرض بالشكوى. كان القافر إذن هو حلقة الوصل بين الناس والأرض، وبين الأرض والسماء، يشكو له الناس، فيستمع إلى همس الأرض بقدرات اختصتها بها السماء، ليضرب بمعوله صخورها القاسية، فتتفجّر الحياة من جديد.
الإحالات هنا متعدّدة، إذ يمكن تأويل العطش بأكثر من نظريّة، لكن وصيّة الأب المدفون تحت التراب، ربما توجه بوصلة عقلي نحو تأويل ما، أكثر من غيره.

الوطن: أرضٌ وامرأة…

كان العطشُ مرادفًا للتيه، والتيهُ معادلٌ لعدم الشعور بالأمان في الأوطان، والوطن لو غاب معناه اللغوي عن عقول البسطاء، يسهل تجسيده في عنصريّ الأرض والمرأة.
وكم كان الوطن/الأرض قاسيًا على أبنائه، وعلى النقيض كم كانت المرأة ملاذًا للحائرين. المرأة هي من تنزّل عليها الوحي الأول، هي التي جادت على المسفاة بولدها رغم الموت، كاذية هي من رعت القافر، ومريم كانت وطن عبد الله بن جميل الذي دفنه يوم غرقت، تمامًا كما كانت نصرا هي وطن سالم في سنوات التيه، وكان هو وطنها الرحّال…
محاولات نصرا لمراوغة رغبة أهلها في تزويجها بعد اختفاء القافر في الرُبع الأخير من الرواية، أحالتني تلقائيًّا إلى سيرة بينيلوب، زوجة أوديسيوس في الأوديسة، كان التطابق بين حيلتيّ نصرا وبينيلوب بغية كرّ بكرة الوقت حتى يعود المحبوب -أعني غزل الصوف أو نسج الثياب- ضاعف من مساحة العجائبيّة التي يسبح ضبابها في سماء الرواية منذ بدايتها، إذ منح سالم ود الغريقة إهاب أوديسيوس، كما منحته الرواية رداء الأنبياء في أكثر من موضع.

وصيّة، وخاتمة…

في صفحة ١٤٨، يقول عبد الله بن جميل لولده سالم بعدما حال بينهما موج الأرض “باه بلادك ما بلاد، البلاد اللي تاكل أموالك بلاد فاجرة، البلاد بو تستغلّك وتاخد تمرة وبعدين ترميك فلحة ما بلاد، باه سالم دور على بلاد غيرها، البلاد بو تنكر جميلك ما تستحق تعيش فيها ساعة. عطشان أسمع صوت أمك، أسمع ضحكتها، باه صوت أمك جنّة، ويدينها كانت حياة”
هنا -حسب رأيي- يصوّب القاسمي سبّابته نحو موطن الوجع؛ الأرضُ الجدباء وطن منهوب، والعطشُ حال المقهورين غير القادرين على الفعل، هذه الوصيّة تتسع بما يكفي لشمل كل ديار العرب، والحكاية برمّتها تؤكد مرة أخرى ما لا تنكره صحف السماء، فلا كرامة لنبيّ في وطنه، ولا إيمان غير متبوعٍ برِدّة. لا أمل في إخراج الخير من أرض يرتع فوقها الجهلاء، وما من أرض إلا وستقبض رحمها وتحجب ماءها ما لم يظهر بين قومها سالمٌ، ليستمع إلى شكواها ونجواها…
كانت هذه قصّة نبيٍّ لم نسمع به من قبل، نبيٌّ آخر ممن اعتاد البشر تكذيبهم، أعرف أنها حكاية من نسح خيال الكاتب، ولكنني أؤمن أن “سالم ود الغريقة”، ما زال حتى هذه اللحظة موجود حيث تركه القاسمي، يسبح في قنوات المياه الجوفيّة، يعيش تيهه الأوديسيّ الخاص، ويحاول الخروج في رفقة الماء، لا لينال حريّته؛ إنما ليروي عطش الظمآنين.

شكرًا زهران القاسمي.
شكرًا دار مسكيليانى للنشر Masciliana Editions على الإيمان بهذا النص الخارج عن المألوف بثورته على السائد والرائج، وعلى تعريفي بهذا الكاتب.
وأخيرًا؛ شكرًا للجنة البوكر التي أنصفت هذا العمل الأدبي الذي أثق أنه سيعيش طويلاً.

١٣ فبراير ٢٠٢٣

#محمد_سمير_ندا

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ