وارث الشواهد: أن تعيد خلق الحكاية من طين أرضٍ لم تزل تتنفس…

وارث الشواهد – وليد الشرفا

قصة مؤلمة تعكس آلية الثواب والحساب في طرح سردي جريء وحافل بالتجريب، يخلق الكاتب من طين فلسطين شابًا يلقّب بالوحيد، ودلالة الاسم هنا تعكس وحدة فلسطين وتشتت الشعب الفلسطيني في تغريبته اللانهائية، سواء في الخارج أو الداخل، والوحيد هنا مؤرّخ ورث التاريخ فكفر بمسلّماته. هذا القادم من رحم المأساة يستجوب السماء ويفند قصص الأنبياء التي أودت بأرضه وأبيه إلى ضياع مستديم.

يعود الوحيد من غربة لفظها قبل أن تلفظه، يهجر برودة آمنه ويؤثر العودة إلى دفء محفوف بالخطر، الجد -واسمه سليمان- يموت، وهو هنا جد وأب استعاض به الوحيد عن أب قتل من دون سبب، ورحل قبل أن يمنحه فرصة نقش ملامحه على جدران ذاكرته، يموت الجد فيتوجب على الحفيد الوحيد دفنه، ينتقل إلى أراضٍ باتت تئن تحت أقدام المحتل، لكن مهمته لا تنقضي بدفن سليمان الذي عاش ومات من دون معجزة ولا كتاب مقدس، بل إنها تبتدئ عقب ذلك حين يرى بأم عينيه أن شاهد قبر أبيه وقد بات في مرحاض أسرة يهودية.

الحكاية التي يرويها الوحيد تكفر بإرث الحكايات كله، الشفاهي والمقدس، والناقل هو طبيبه الذي اقترب منه في صباه، ثم إبان اعتقاله الأبدي في إثر ردة فعل تليق بشاب يرى شاهدة قبر أبيه تسبح بين فضلات اليهود، تقنية الكتابة فريدة وغير اعتيادية، يتحدث الراوي كمن يستشرف ما سوف يجري، مخاتلاً القارئ في لعبة سردية تستبدل الماضي بالمستقبل، فهذا الوحيد الذي يؤمن المقربون منه بنبوّته، يحكي عمّا جرى بضمير العرّاف طوال الوقت، يعترف أمام قارئ بات كاهن اعتراف، أو يكتب رواية نعرف إنها لم ولن تكتمل، أو يزأر بمرافعة أمام منصة غاب عنها قضاتها، بينما صوت الطبيب يجول باعتيادية بين زمنيّ الفعل؛ الماضي والمضارع، ورويدًا رويدًا، يلتقط الطبيب العدوى من مريضه، عدوى الشك في كل منقول يعارض المعقول، كانت تلك رسالة المؤرخ الوحيد التي أرادها أن تنتشر بين الساكنة عقولهم، تنساب الحكاية بحبكة دائريّة، تبرز الأثر قبل السبب، ثم ترصد التحوّلات التي تطرأ على طبيب مسيحي عرف العيش الآمن في الدولة المحتلة، وحمل – وهو المغتصبة أرضه – جواز سفر ينتمي إلى الغاصب، يتحول الطبيب من فلسطينيّ معطّل الهمّة والإرادة إلى فلسطينيّ فاعل يؤازر الوحيد رغم علمه المسبق بتبعيات موقفه، وكيف كان بتحوله هذا يسحب بساط الأمان من تحت قدميه وأقدام أسرته.

الطبيب العائد من غيبوبته التاريخيّة الطوعية هنا، يحمل اسم بشارة…

تتخلل الحكاية الرئيسة أصوات موازية توثق حكاية المؤرخ الوحيد، وتكشف عن وجهه الرسوليّ، فعلاوة على تدخلات مقتضبة من راو عليم، وراو مشارك هو الطبيب، تتسرّب إلى النص أصوات ريبكا زوجة الوحيد وأم ابنته الوحيدة؛ الفنانة التي جذبتها إليه حكاية وطن تفوق تراجيديتها دراما المسرح الذي درسته، وجوليانا بشارة ابنة الطبيب الذي استطاع أخيرًا أن يقطع المسافة التاريخية المبتورة بين عين هود وعين حوض.

تكتمل الحكاية عبر دمج الزوايا التي يشاهد منها الرواة بطل الحكاية، وترتد بالقارئ إلى رصاصة قاسية أُطلقت عام ٦٧ على مدرس لم يرتكب جُرمًا سوى تدريس الناشئة، فأردته قتيلاً دُفن فور مقتله أسفل شاهد قبر متجهّم. مات الأب فلقّن الجد، المطرود من أرضه عام ٤٨، الحكاية للحفيد، ثم بات الحفيد وحيدًا، فمضى بين الناس نبيًّا من دون أتباع، ومؤرخًا يبشر بالحقيقة، داعيًا كل امرئ إلى إعادة قراءة ومراجعة وفحص التاريخ الذي تشكّل منه الوعي الجمعي لنا نحن معشر العرب.

نص لا يُنسى، كتابة تُدين التلقيح التاريخيّ للخيال الجمعيّ للشعوب، وكيف كانت الكلمة ولم تزل أداة زيف ومعول هدم تحركه الأهواء والأغراض. نص يجعلنا نشعر أننا نتاج نيجاتيف قديم لصور لم يسمح لنا يومًا بإعادة تحميضها.

لغة محكمة وتقنية سرديّة تتسق مع فكرة النص إذ تتحرر من كل القيود وتتسرّب من القوالب السائدة للكتابة، وصور شعريّة تعمق الجرح وترسخ الأثر، ومقاطع حوارية ثريّة وكاشفة على قصرها…

هذا النص ثائر، صخّاب في صراخه، صادق في دعوته، يطرح أسئلة تعلّمنا ألا نسألها، ويفند أمورًا قيل لنا إنها مسلّمات، ويصوّر العالم بعدسة تفرز صورًا لم تضمها كتبنا التي نتوارثها منذ أجيال، أعاد وليد الشرفا خلق الحكاية من طين الأرض التي لم تزل تتنفس الحياة، وضفّر حكايته -التي بدأت وانتهت أمام شاهد قبر- بأسلوب أدبي حداثيّ شيّق، ليجعل لحكايته بهاء وسطوة أساطير الأولين. لا يمكن أن يمتثل القارئ لوصية الكاتب الموشومة في صدر كتابه إذ يقول: القارئ شريك في المعجزة، لكنَّه ليس شريكاً في الإثم!»، فبكل أسف عزيز وليد، نحن شركاء، كنا، ولم نزل…

وارث الشواهد، واحدة من أفضل وأهم الروايات التي قرأتها في السنوات الأخيرة…

“وصلت الرواية للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية”

من يعرف وليد الشرفا يبلغه سلامي وامتناني، وأسفي…

#محمد_سمير_ندا

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ