حجر أزهر جرجيس وطيف السعادة: أن تصوّب الكاميرا إلى الداخل، لا الخارج…

في روايته “حجر السعادة”، يواصل الكاتب العراق المتميّز أزهر جرجيس تكريس أسلوه الأدبي المختلف، فيقدم حكاية عراقيّة تزاوج بين السخرية المريرة والشجن، فتنتج مرة أخرى رواية تؤطر الحياة برمّتها في إطار من العبث، فحجر السعادة لا يقدم السعادة، إنما هو طريقة أخرى للهروب من الواقع ابتكرها بطل حكايتنا وراويها الأوحد كمال توما؛ المصوّر الستينيّ الذي هربت منه الحياة في طفولته، فآثر أن يتجنّبها وكاد أن يُفلح، لولا محرّكها الأول؛ الحب.

لدينا العديد من نقاط القوة في هذا النص، والكثير من الثيمات الرئيسة التي أجاد أزهر جرجيس عرضها بطريقته السلسة التي تخلو من الوعظ والصراخ واستدرار التعاطف، فيكفي أن أذكر أن بطل الحكاية طفلٌ واجه العنف الأبويّ واضطهاد زوجة الأب، والاتهام بقتل أخيه، والتشرّد والضياع، وانتهاك الطفولة، وعنف الميليشيات، لكنك لا تملك إبّان سرده لحكايته إلا أن تضحك، وتحزن، ثم تضحك، وتحزن، حتى تنتهي الرواية فتغرق في شرودٍ طويل!

نشأ كمال مظللاً برعاية أخته الكبرى عقب وفاة أمه وزواج أبيه من امرأة أخرى لا تكن له ولأخته سوى العداء والمقت، لكن كمالاً يظل مسالمًا على طول الخط، يتشرّب -كما يليق بكل طفل عربيّ أصيل- أسس الصمت والخنوع وتجنّب المواجهة قدر ما استطاع، حتى أنه لا يحمل أية ضغينة تجاه أخيه غير الشقيق الذي توليه زوجة أبيه رعاية لا يلقاها سواه. لكن الأقدار تحمل للصغير غرقًا تعلّقه الأم على عنق كمال، فيفرّ الأخير إلى قدر مُخاتل يحمل له كل أوجه التشتت والغدر والضياع.

أحبَّ كمال الكاميرا منذ سنوات الطفولة، وتعلّق بالمصور وأدواته القديمة، آمن بفكرة تخليد الزمان والمكان داخل إطار يعيش أطول من ساكنيه، يمارس التصوير عقب سنوات التيه، يتلقّى أصول المهنة عن العم خليل، العجوز العقيم الذي يتّخذ منه ولدًا يعوّض به جفاف أمانيه، ويأنس إليه في ما بعد عقب رحيل زوجته، وهكذا يعانق كمال حلمه، يغوص في عوالم الصورة، ويعرف العشق، لكنه بعد سنوات، وعندما يقرر أن يروي حكايته، يوجه كاميرته إلى الداخل، إلى داخل كمال؛ الطفل والشاب فالرجل، ليحمّض لنا نيجاتيف الصور والمشاهد التي التقطتها ذاكرته خلال رحلته القاسية، فتتراكم صفحات هذه الرواية…

وعلى الرغم من اعتقادي أن عنونة النص بـ “حجر السعادة” لم تكن الخيار الأكثر اتّساقًا مع الرواية، إلا أن الحجر قد ثبّت رمزيّته فوق أوراقها على محدوديّة دورة في تصاعد النص وتطوّره، إذ كان الحجر الغريب ملجأ كمال كلما بلغ عصف الحياة ذروته، يتذوق الحجر فيهبه الصخر صبرًا، لكنه ظل دائمًا صبرًا بلا مذاق، صبر العاجز لا صبر الواثق من تحسّن مآله، اعتقد كمال أن سعادته في الحجر، لكنه تناساه وتجاهله كثيرًا، إذ لم يقدم له الحجر سعادة سلبها إياه البشر، حتى تخلّص كلاهما من الآخر، فعرف كمال أن السعادة كانت حاضرة في نيجاتيف حياته، من دون حجر.

اعتمد الكاتب لعبة سردية تنهض على دائرية الحكاية، إذ تبتدئ فصولها من مشهد ذروة، ثم يرتدّ بنا الراوي الوحيد للنص، وهو هنا كمال توما، ليعيد بناء سرديّته بنسق كرونولوجيّ حتى تكتمل الدائرة بالوصول إلى المشهد الأول، ثم تتواصل الأحداث لتحمل ختامًا مغايرًا للتوقّعات الأولى. وعلى الرغم من شعوري أن تسارع الأحداث في القسم الثاني من الرواية قد شابه بضع قفزات زمنية أوحت لي أن ثمّة أوراق ربما حذفها أزهر عملًا على تقليل حجم النص، إلا أنني لم أفتقد متعة القراءة على طول الخط، بل أشعر أنني كنت أود قراءة المزيد من حكايات كمال توما، بسرده الشائق ولغته المترعة بالصور كما يليق بمصوّر يعشق الكاميرا، وبخفة ظلة التي خففت كثيرًا من جرعة الكآبة وبددت سحب السواد التي لم تزل سابحة في سماء العراق.

استعرض أزهر جرجيس عقودًا من تاريخ العراق، مرّر في الطبقة غير الظاهرة من نصه فصولًا من تاريخ وطن مأزوم، عرفنا الحكايات كلها في خلفيّة المشهد، لكنه لم ينجرف إلى كتابات الحنين والنحيب التي عادة ما تسيطر على أقلام المهاجرين، لم ينقل الدم والبارود إلى أوراقه، تحرّر تمامًا من كابوسيّة خاتمة رائعته السابقة “النوم في حقل الكرز”، لم يجنح إلى إدانة طرف أو إلى تبرئة آخر، لكنه لم ينس أن يرثى الزمن الراحل، وأن يلتقط صورًا لوجوه ومطارح ستظل على النسيان عصيّة رغم كل شيء. ناقش أزهر مجموعة من القضايا الطاردة للأمن والسكينة، وهي منتشرة في كل ربوع العرب وليست حكرًا على العراق، العنف الأسري ومآسي أطفال الشوارع والانتهاك باسم الدين، التعصب الطائفيّ والطبقيّ، والقتل على المشاع تحت رايتيّ الدين والوطن، والانسحاب التدريجيِ للوطنيّة من أوردة أبناء البلد…

بعدما قاسى كمال توما ما لا يتحمله بشر، واختبر الظلم والقهر والإكراه والجوع والتشرّد والعبوات الناسفة وفوضى الميليشيات وإطلاقات الرصاص، وعلى الرغم من إيمانه بحجر يغير القدر، إلا أنه حين أوشك على التحوّر إلى همجيّ آخر ينشد الثأر ويستبيح الدم، لم ينقذه شيء سوى الحب، حب نادية، العشق القديم والغرام المتجدد، كان اسمها هو المرادف الدائم للحياة، والمعادل الموضوعي للتسامح. ولولا طاقة التسامح التي أعادتها إليه، ووشائج الهوى التي أوثقت بها غضبته، لكان كمال توما كأي مرتزق مسلح ممن يجوبون حتى الساعة أزقة بلاد الرافدين.

الحب إذن هو الملجأ في رواية أزهر جرجيس، الحب هو الملاذ والحصن، وهو شتلة السعادة الحقيقية التي لو أثمرت؛ لاستغنى البشر عن كل حجر وصنم وحاكم جائر. أجاد أزهر كثيرًا حين دفع راويه إلى توجيه الكاميرا إلى دواخله، وتحميض نيجاتيف الصور غير المطبوعة في ذاكرته، دفعه لكي يتحرّر من إرثه الثقيل تصويرًا وسردًا، تعرّى كمال توما وباح ما أنهكه كتمانه ستة عقود، روى ففاضت الحكاية بكل أوجهها الحمّالة لأوجه الخير والشر، الفيّاضة بالأسى والوعود.

رواية حجر السعادة تشبه كثيرًا ألبوم صور طفولتنا، كل فصل فيها يحوي صورة يتوّجها عنوان جاذب وملائم، سيستعرض القارئ مع صاحب الكاميرا صفحات حياته التي طغى فيها الأسود على الأبيض، سيشفق على المصوّر، وعلى وطنه المبتلى بالخذلان، سيتذوق حجر السعادة الضائعة، فلا يميّز طعومها، ولا يلحق بأطيافها، قد يفتقد البعض بعض الصور المفقودة مثلي، ثمّة قارئ سيرتبك، وآخر سيضحك، وربما يبكي، لكن القارئ حتمًا سيبتسم بينما يطالع صورًا لا تخلو من الأسى، فقد طغى الأسود على بياض الحلم كما أسلفت، لكن الأبيض – أبدًا – لم يغب.

عمل سردي متميّز لكاتب اعتدت ألا يخيب ظني، استحق التواجد في قائمة البوكر…

أحسنت يا صديقي 🌹🙏

ناقشنا الرواية بحضور الكاتب في نادي صُنّاع الحرف منذ أسابيع…

#محمد_سمير_ندا

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ