وادي قنديل لنسرين خوري؛ بين قيامة إيلان، وطعنة الماضي في خاصرة المضارع

توطئة
في روايتها الأولى “وادي قنديل” الصادرة عام ٢٠١٧ عن منشورات المتوسط، والتي هي الأخيرة حتى الآن، قدمت الروائية السورية نسرين أكرم خوري عملًا روائيًا يصعب إسقاطه من شرفات الذاكرة، وضخّت في أوردتي شحنة ألم ممتدّ الأثر، على الرغم من إقصائها للنبرة البكائية التي تنبثق عادة من رصد المذابح والمآسي الإنسانيّة (وما أكثرها) بصورة مباشرة. وعلى عكس المرويّات الكثيرة عن الحرب السوريّة، وما يرادفها من بورتريهات الدمار، ونقل الخسارات الملموسة والمحسوسة على ألسنة شهود عيان، تنهض رواية وادي قنديل من المستقبل القريب، وتحديدًا عام ٢٠٣٤، لتنظر إلى الماضي بعدما باعدت بينه وبين الحاضر مسافة تؤهل الناظر لاستبيان الوقائع وترتيبها، واستجلاء الحقائق التائهة بين الحناجر المتناحرة.
هنا تتكئ الرواية على عتبة الزمان المقبل، وتمنح بطلتها في الطبقة الأولى من الحكاية؛ (ثريا لوكاس)، مفاتيح الماضي، ثم تكلفها بمهمة البحث والتقصي. حكاية ثريا تبدو شديدة التأثر بمأساة الطفل السوريّ آلان كردي، الذي لفظ بحر إيجه الرحيم جثته على شواطئ التركيّة، ليجنبه بذلك مصير بطلتنا (ثريا لوكاس)، التي سلمها الموج بدوره إلى رمالٍ لارنكا القبرصيّة من دون عائلة، إذ غرق أفراد أسرتها مع آمالهم بالرحيل. في إثر ذلك تتبنى ثريا امرأة قبرصيّة هي (ماما ساتي)، وتمنحها حياة لا تنفك أن تكشف لها عن حقيقتها وأصل قصتها، لتندفع غريزيًّا نحو معاينة الماضي، منشغلةً بتقصّي أثر الحكاية. توقفت هنا أمام التقارب بين ثريا وإيلان، فالفارق بين موت إيلان ونجاة ثريا عام واحد، كما أن الفارق بين عمريهما وقتما حدد البحر مصائرهما عامين، لذلك فقد شعرت لوهلة أن هذه الحكاية تضعني أمام صورة تخيليّة لحياة إيلان لو هادنه البحر، وفي مقابلتها تقبع مرآة قديمة تعكس صورة ثريا ميّتة على شاطئ مجهول، لو استبدلت أقدارها مع إيلان.
هذا التناص المؤلم بين الواقعيّ والمتخيّل، وضعني أمام حفنة من الخواطر رافقت رحلة قراءتي لهذا النص؛ أفكار لم تغب عني رغم تشعبات مسالكه، وتذبذب زمن الحكاية بين حاضر ومقبل وفائت.

الماضي المضارع هو التاريخ ممتدّ الأثر
أذكر أنني، ذات كتابة بعيدة عن فلسطين، شدّدتُ على ضرورة الفصل بين التاريخ المُحتجز في خانة الفعل الماضي، والتاريخ ممتد الأثر الذي يظل فعلًا مضارعًا حتّى وقت كتابة السطور، وكان ذلك في سياق تفنيد أقاويل وضعتْ نكبة فلسطين وقنابل هيروشيما وناجازاكي النوويّة داخل إطار تاريخيّ واحد. هذا الطرح يتجلّى في هذه الرواية عبر تصوّر أثر الماضي على الراهن والمقبل، وتحسس نصاله التي تسرح في جسد الزمن لتترك آثارها على جبين المستقبل.
باختصار؛ لو كان الزمن نهرًا، فقد حملت نسرين خوري دفاترها وأقلامها، وكاميرتها، واستقرت على الضفة البعيدة، لترصد ما يجري على الضفة القديمة، لأن كلا الضفتين يصبان سمومهما في ذات النهر. كان هذا في ما يخص عتبة الزمان، أما المكان فهو متجمد في وجدان الراويتين في الطبقتين الأولى والثانية للرواية. سوريّة؛ حلب وحمص ودمشق، واللاذقية حيث يهجع في شمالها وادي قنديل، الشاطئ والبحر ومد الثورة وخلوة والنفس، وبؤرة المكان الرئيسة.

جدائل متشابكة لحكاية واحدة
تبتدئ الأحداث في عام ٢٠٣٤، ثريا لوكاس تدوّن تجربتها مع ما طالعته في يومياتٍ تركتها امرأة أخرى هي غيم حداد، وثريا لا تعرف غيم، لكنها تعرف أنها سوريّة، وتدرك أنها استلمت هذه الأوراق في وادي قنديل، حين قررت عام ٢٠٢٩ أن تتمادى في خطتها لتقفي أثر الغرقى من أهلها فانتقلت من التجوال بين المواقع الإلكترونية وأطلس الخرائط إلى الانتقال المادي من قبرص إلى سوريّة. هكذا اعتملت أوراق غيم في صدر ثريا خمس سنوات، ملأت الفراغ القديم ورتقت ثقوب الحكاية ورمًمت الصور الضبابية عن الأصول والفروع المبتورة، وظلت وفيّة لحلم غير معلن باستكمال حياة غيم، مع ذات الرجل الذي عشقته هذه الأخيرة ذات يوم بعيد.
هكذا تنقسم محاور الرواية إلى جديلتين سرديتين بالغتي الإحكام، الأولى هي أوراق غيم حداد، التي تنقسم بدورها إلى تدوين دقيق لأيامها في وادي قنديل، وهي أيام اكتشفت خلالها الذات والآخر، فأُعيد تكوينها في سبعة أيام بمثابة خلق جديد، ويوميّات غيم التي ترتد إلى زمن الولادة وصولًا إلى حاضرها الملتبس في ٢٠١٤. في الجديلة الثانية نقرأ هوامش غيم التي تتسرب من حروفها حكايتها، قبل أن تختتم الحكاية بتدوينات شبيهة بيوميات غيم التي كتبتها قبل عقود.

يوميّات غيم حداد : الطبقة الأولى من الحكاية
تعنون غيم يوميّاتها بأسماء شخوص أو أحداث تاريخية، ترسم بورتريهات لشخوص أثروا في حياتها، ومواقف راسخة تستعصي على النسيان، وفي ذات الوقت تقدم إلى القارئ حكايتها كاملة منذ مولدها سنة ١٩٨٧ بعد سبع سنوات عجاف أوقدت خلالها أمها آلاف الشموع على مذابح الأمل والرجاء، مرورًا ببداية الثورة السوريّة في ٢٠١١، وصولًا إلى عام ٢٠١٤، تقدم غيم في هذه الفصول شخصيات متنوعة، مثل سينشيا؛ قريبتها القادمة من البرازيل، والتي تمثل الصورة العكسية لحياة المرأة الشرقية بما تأتي به من تصرفات تعكس فطرة الحرية وتتجلى فيها مزايا التحرر من ثقل الحكم الأبوي. تخصص غيم فصلين لجنى صباغ، وفي طياتهما حكاية منار؛ النموذج الشرقي للمرأة مكبلة الإرادة والرجل صاحب الأجنحة المديدة، ومصير الفتاة إذ تجرؤ ذات حلم على اجتياز الأسلاك الشائكة للعرف المجتمعي والديني. أما جنى فهي دمشقية نزحت إلى حمص عقب ربيع التهجير. في فصل آخر من اليوميّات تقدم لنا غيم شخصية مخّول، الذي يمثل الظاهرة الصوتية العربية بكل مساوئها وسذاجتها، تم تفرد غيم خمسة فصول لشخصية أبي ويليم، وعلى الرغم من أن هذه الفصول الخمسة تتخللها ومضات كثيرة تخص حياة غيم، إلا أن عنونتها باسم أبي ويليم تبرهن على تأطير هذه الشخصيّة التي تعكس صورة رجل رفض تغيير خرائط ذاكرته فاستسلم للنهاية، وجعل يواجه الحرب ببيجامة، وطاولة، وكرسي قديم! هذا علاوة على تخصيص بعض الفصول لتأطير مواقف تاريخية، مثل حصار حمص واعتصام الساعة.
نعرف ما يكفي عن أبوي غيم؛ فارس حداد وجورجيت معتوق، كما نطلع تدريجيًا على مراحل تكوّن غيم؛ تعرضها لحادثتي اختطاف مرتا بسلام على الصعيد الجسدي، دراستها للهندسة الزراعية وتعلقها بالمشتل والنباتات. ثم نتلمّس الهوة بينها وبين أمها، الأمر الذي وضحته الكاتبة عبر وضع مسافة في الخطاب بين الأم وابنتها، فغيم تقول “ماما جورجيت” ثم تكرر كثيرًا “جورجيت” من دون “ماما”. تتوطد هنا العلاقة بين غيم والقارئ حين يتحسس جدران عزلتها الآخذة في الارتفاع، يلاحظ أنها تتحدث أحيانًا عن نفسها بضمير الغائب، ربما لالتقاط مساحة أكبر من الحدث، لكنه لا يملك إلا أن يتعاطف مع وحدتها التي لم يترجمها إلا قلمها هي، بعد صافرة النهاية.

وادي قنديل : امتداد الطبقة الأولى
شاطئ وحرب، زقزقة عصافير ودوي رصاصات، حب وفراق، رواية لا تُكتب، وحكاية أخرى تنتهي على حين غرة. سبعة شخوص وسبعة أيام. بداية للنهاية، ونهاية للكثير من البدايات. هذه اليوميات تحفل بالكثير من الصور الضدّية التي كان لها عظيم الأثر في توضيح المعاني، ووضع الواقع أمام مرآة الأماني.
ضمن زمرة المجتمعين في وادي قنديل هربًا من الواقع والمظاهرات والرصاصات، نتعرف إلى أنس رحيم الذي لاح وجهه أثر من مرة في الصور الملتقطة خلال الفصول السابقة، وهو رفيق غيم، حبيبها وأنيسها ووليفها، وهو كاتب وصحافي من حلب، جنى صبّاغ وصالح، وهو مصوّر كلاسيكيّ يرفض التصالح مع عصر الديجيتال ولا يقدر على فراق غرف التظهير وأستارها السوداء، فيتحوصل في شرنقة مظلمة رافضًا مواجهة النور الذي يعد هنا مرادفًا للحقيقة، وللحرب. كما نتعرف إلى ميسم وعروة الزين، ميسم طبيبة مخلصة لعملها، بينما عروة مكتبيٌّ يمارس بطولاته في عوالم افتراضية. أما الشخص السابع بين المجتمعين في وادي قنديل، فلدينا شخصية ريحان أو ريشة، وهي من الثوار النشطين المشاركين في مظاهرات كثيرة، فتاة شيوعية بالوراثة، تحلم منذ سنوات بقبولها في معهد الفنون المسرحية، وتعمل في أحد البارات ليلا لتغطية نفقات معيشتها، في ظل قطيعة أهلها في إثر وقوعها في غرام شاب مسيحي، علاوة على اعتقالها في إحدى المظاهرات. كان لدينا إذن ثلاثا ثنائيات من العشاق، وفتاة شاردة أرادوا أن يحتفلوا بعيد ميلادها في رحلتهم الصيفية هذه، لكن النهاية جاءت مغايرة، وصادمة.
وعلى الهامش، نتعرف إلى شخصيّة حنان النعمة، المسؤولة عن الشاليهات في وادي قنديل، والقاسم المشترك بين الزمنين. فتاة من حلب تحب تسمية الأشجار، وهي نموذج اخر لشخص ارتضى بالعيش كورقة شجر يذروها الخريف حيثما قدرت الأعراف قبل السماء. حنان هي التي وجدت أوراق غيم في ٢٠١٤، وهي من سلمت الأوراق إلى ثريا عام ٢٠٢٩، بعد استشعارها صلة روحيّة وشكليّة بين الفتاتين، خصوصًا وقد انقطعت أخبار غيم منذ سنوات، وبات لأوراقها الحق في أن تُقرأ.

هوامش ثريّا : الطبقة الثانية من الحكاية
تحوي هذه المقاطع إشارات واستدراكات لما تقرأه ثريّا من أوراق غيم، تضع ثريا الدوائر الحمراء حول نقاط التشابه، ثم تقتفي نهج غيم، فتشرع في الفصول الأخيرة من الرواية في كتابة مقاطع معنونة بأسماء شخصين لهما أهميّة كبرى في وصل جديلتيّ السرد، ألا وهما حنان النعمة، وأنس رحيم. فأنس بدوره قاسم مشترك بين الزمانين، هو عاشق غيم ومعشوق ثريا، هو بداية الرحلة ونهايته، وما حنان النعمة إلا وسيط، بيد أن هذا الوسيط، وعلى الرغم من المساحة المحدودة التي خصصت له في طيات النص، بدا كشاهدة عيان، صادق وحقيقي.

اللغة الشعريّة في وادي قنديل
هذه لغة قادمة من زمان آخر، وربما من مكان آخر، زفرات من الشعر حطّت على نول الكتابة فنسجت منها نسرين عباءة حكايتها. عبقرية اللغة هنا تكمن في سلاستها وانسيابيتها على الرغم من احتشاد الصور والاستعارات وأنسنة الجامد وتشيئ الحيّ، قوة بلاغية هادرة لا أعرف كيف تسنّى لها أن تمر بنعومة بين الصفحات من دون أن تتسبب في تصدع معمار الرواية وخلخلة أُسسها؟ هذه هي نقطة القوة، وهنا يمكن موطن السحر الذي تكشّف لي في قراءتي الثانية للرواية، فأنفاس الشعر هنا ثاوية بين الأسطر بطريقة تألفها العين وتنجذب إليها الأسماع فلا تزعج القارئ ولا تعطّل التلقّي.
كذلك جاء استخدام أشعار درويش وبسام حجار في استهلال الفصول أو تضمينه في متن السرد موفقًا، ومنج النص قوّة إضافيّة نتجت عن حسن التوظيف، والابتعاد عن فلسفة حشو النصوص بالاستعارات من دون ثمّة ترابط

ختام : ظاهر النص وباطنه
ما ظهر من النص:
رواية نسجت ببراعة وتأني، حبكة تتصاعد بنسقٍ أركيولوجي على الرغم من تعدد الدوائر والطبقات السرديّة وتشطي الأزمنة، يظل التشويق حاضرًا رغم كآبة الأجواء، لغة ساحرة تترك القارئ جذلًا، معمار سردي متماسك، تضاد وتناص يعضدان الحكاية، تطور مفهوم للشخوص، شخوص أكاد أجزم بحقيقيتها (خصوصًا شخصيتي أنس رحيم وحنان النعمة)، تغيير وتجديد في زوايا الالتقاط، وتصوير بارع لمكان -اقترن بالسعادة- في زمن ذبوله (وادي قنديل)، معاينة للخسائر رغم تحقق الابتعاد الزمني والمكاني، وحتى ما قد يؤخذ على الرواية من تفاسير ملتبسة لدوافع الشخوص في لحظات تقرير المصير، أراه شديد الاتساق مع الواقع.
ولكن: هل توقعتم أن أكشف لكم عن نهاية الحكاية؟ إلام انتهت رحلة وادي قنديل؟ أين ذهب الأحبّاء الذي اجتمعوا على الشاطئ في عام ٢٠١٤ بقلوب اختلطت فيها الآمال بالمخاوف، والحب باليأس، والصمود بالانسحاب؟ ما هو مصير غيم وأنس على وجه الخصوص؟ هل ابتلعتهم الحرب أم راوغوا الصواريخ هروبًا إلى شاطئ لا يعرف الرصاصات؟ هل كانت ثريّا أوفر حظًا من إيلان الكردي، أم العكس؟ وما مصير كل هذه الأوراق المتراكمة، بل: ما فائدتها ما لم نقرأها؟
ما وراء النص:
لقد ألقت نسرين خوري بصحف الغد في وجوهنا، كأنها تصفعنا بصفريّة أفعالنا وعجزنا حيال تحريك الزمان المضارع ودفعه نحو مستقبل أقل قتامة من الماضي والحاضر، صفعة نستحقها جميعًا لعجزنا عن الخروج من رمال الخوف الساكنة التي لا تحركها إلا أجسادنا المرتعشة.
استشرفتْ نسرين المستقبل وجسّدته، فبدا كطفل مبتسر أدمته أظافر الماضي وأعماه ضوء لم يألفه في قاع البحر، بحثتْ معه وبحثنا عن قاربه المثقوب، فوجدنا أن القاع ممتلئ بالقوارب المثقوبة، وعرفنا أن البحر لا يميّز بين وجوه الغرقى، وأن القدر لا يفرق بين الناجين والنائمين على شواطئ الرحيل.
اقرأوا هذا النص، ففيه من الأسئلة ما يرضي القارئ أكثر من الإجابات!

تعقيب أخير: يلومني بعض الأصدقاء لأنني أتحمس كثيرًا حين أكتب عن عملٍ أحببته، ويقولون إن هذا التحمس يلامس المبالغة وربما التحيز في بعض الآونة، لكنني أرد على ذلك بأن هذا النص الذي قراته مرتين وكتبت عنه طوال ساعات ثلاث، يستحق بكل صدقٍ أن أنحاز له كقارئ، وأن ألح على القراء حتى يطالعوه، خصوصًا حين يمر نصّ كهذا -برغم فوزة بمنحة المورد- مرور الكرام، فلا تفرد له المساحات النقدية المناسبة، ولا يقابل بالاحتفاء الثقافي الذي يليق به.

المتوسطAlmutawassit

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ