فسيفسائيّ “ولِيلي” يسأل؛ أننحتُ نحن التاريخ، أم إننا بعض منحوتاته؟

رواية مجنونة، مختلفة وجريئة في بنيتها، تتناءى وتلتم كجزر ومد، نحن أمام نص يعرض ثلاث روايات متداخلة ومتشابكة، لا أقول هذا من باب المجاز، إنما هي فعلاً ثلاث روايات نقرأها رفقة محقّق وقارئ يتحرّى حقيقة جريمة أخفق في كشف غموضها قبل عامين؛ كانت ضحيتها كاتبة أمريكيّة قضت نحبها في ظروف غير اعتيادية وإن ظهر العكس. الروايات الثلاث هنا قطع مخاتلة كأحجار تكوّن مُجتمعة لوحة من الفسيفساء، لا تبوح واحدة منها بالحكاية ولا تعكس الصورة المنشودة إلا لو اجتمعت جميع قطعها وتعانقت.

الفكرة عبقريّة، وبما أن العبقريّة تجاور الجنون كما أخبرنا التاريخ، فقد عمد الكاتب إلى تحويل روايته إلى قطع فسيفساء حقيقيّة، فتفادى قصّ الروايات تواليًا، وجنح إلى نثر فصولها بنسق متتابع حتى تكتمل الروايات الثلاث في نهاية الرواية الأم “الجامعة والرئيسة” في ذات اللحظة، مشهرة حقيقة اللوحة، والجرم وفاعله…

يخطئ الظانّ بأنه أمام رواية بوليسيّة، فواقع الأمر أننا أمام رواية رئيسة صُبّت في قالب بوليسيّ لا ينقصه التشويق، تتشعّب منها ثلاثة روافد تغوص في تاريخ موغلٍ في القِدم، ترتدّ إلى قرون طوتها الصحف ثم سرعان ما تقفز إلى نهايات القرن الماضي.
الحكاية تتطوّف حول صناعة الفسيفساء وصُنّاعها في ظل جريمتين؛ اختطاف حجر وقتل بشر، لكنها تمرر عبر طبقات تتفاوت بين الرمزيّة والعلانيّة حزمة من الأفكار والرؤى، العلاقة بين الداخل والخارج، المواطن والمحتل، مفاهيم الوطن والمواطنة وسبل احتكارها بين الفئات، سرقة التاريخ ومهازل الأجهزة الأمنية العربيّة، الأمراض الاجتماعية المعاصرة وجنون الشهرة وكُتاب الظل، وقداسة الحجر مُقارنة بقيمة البشر.

مدينة “ولِيلي” هي مسرح المكان وفضاء الزمان، تتكئ الرواية الأولى “ليالي وليلي” على لقاء بين كاتبة أمريكيّة ومدرس وكاتب شاب في إحدى المدارس القرويّة، يجمعهمها حب الفسيفساء والكتابة، ويسعيان إلى جمع لوحة قسّمت ذات غفلة إلى ثلاث أقسام، تكتب الأمريكية روايتها عما يجري، بينما رفيقها يكتب رواية أخرى عن تاريخ المدينة. الكاتبة هنا قد يستشف القارئ إنها المعنيّة بالجريمة المذكورة في الرواية الرئيسة ولم تزل تؤرق المحقّق.

ثم نشاهد نشأة وليلي في الماضي السحيق، نتعرّف على حُكّامها وخوّانها وسكانها الأصليين من شعب المور، إضافة إلى حياتهم واختلاطهم من خلال قصة حب آسرة بين فسيفسائي وواحدة من نبيلات المحتلين، يأتي هذا في إطار الرواية الثانية “حكاية الفتى الموري” والتي يكتبها كاتب شبح بالوكالة عن شخص غامض، والكاتب هنا هو ذاته المدرس والكاتب الشاب في الرواية الأولى. يتنازل الشاب عن مولودته البهيّة في إطار صفقة تؤمن له حياة مستقّرة لسنوات “ستون ألف درهم”، يرتضي التحوّل من كاتب إلى ظل أو شبح غير مرئيّ يتوارى خلف اسم توّاق إلى الاشتهار، ووقتما توشك مولودته الحبريّة على استعادته من براثن التخلّي، يكون الأوان قد فات.

ثم نرتد في الرواية الثالثة “باخوس في العيادة”، التي تنطلق من عيادة طبيبة أمراض نفسيّة، إلى حادثة سرقة تمثال باخوس في زرهون-وليلي سنة ١٩٨٢، وما حل بأهالي قرية فرطاسة من عذابات واعتقالات وتنكيل حتى الموت، بغية الكشف عن سارق تمثال إله الخمر الضائع، أو تقديم حفنة من القرابين البشريّة إلى ملك البلاد وكتبة الصحف وإله الخمر ذاته. كاتبة هذه الرواية هي طبيبة نفسيّة تكتب حكاية إثنين من مرضاها، أولهما واحد من ضحايا القصاص الجماعي الذي نفّذه الأمن المغربي ثأرًا للإله المخطوف، وثانيهما شخص غامض يعاني في إثر إتيانه بجريمة شنيعة ارتكبها في حق وحيده من باب الخطأ، بيد أننا نعرف لاحقًا إن تلك الحادثة، أو الجريمة، لم تكن أشنع جرائمه.

أمتع ما في الروايات الثلاث، ولعله أصعب ما فيها، سواءً بالنسبة للكاتب أو القارئ، هو أن كل الروايات تتبنى ضمير المتكلم بالتناوب بين أكثر من راوٍ/ أو عن أكثر من شخص. لدينا راويين في الرواية الأولى، والأمر كذلك في الرواية الثانية، وراوية متكلمة تتحدث بالتناوب عن شخصين في الرواية الثالثة، علاوة على استخدام تقنية الراوي العليم للتعبير عما يجول في مخيلة المحقّق/القارئ في مستهل النص الرئيس وختامه، ناهيك عن الإطلالة المفاجئة لوجه الكاتب في أواخر الصفحات، كواحدٍ من شخوص نصّ دأب فاعلوه على استبدال وتمويه الأسماء!
تصوّروا معي أن يتم هذا التناوب والاشتباك عبر ثلاث مستويات للسرد، مستوى أول يتمثّل في تناوب الروايات/النصوص، ومستوى ثانٍ يتجسّد عبر اشتباك الفصول الخاصة بكل رواية، ثم مستوى ثالث يطلّ علينا في ثنيّات الفصول ذاتها عبر التناوب بين الرواة أو المروي عنهم!
مغامرة سرديّة هائلة، مجازفة محسوبة تنهض على افتراض قدرة القارئ على الإمساك بالخيوط، وتجميع أحجار الفسيفساء التي تُظهر جداريّة هائلة تؤرّخ لعدّة مشاهد من تاريخ المغرب، ومدينة “ولِيلي” على وجه الخصوص.

ما ذكرته للتو، لا يمثّل إلا قراءة عجولة عن نصٍّ مؤهل بقوّة للظهور في قوائم أيّة جائزة حال ترشّحه، فما لم أتوقف عنده كثير ولافت، إذ حشد عيسى ناصري مجموعة مذهلة من التنويعات على مقام الحكاية الرئيسة، فكان كمايسترو مكينٍ يوجّه عازفيه لأداء عزف منفرد من آن لآخر، ففي طيّات هذه الحكاية وحشاياها استخدام متقن للأحلام، والخيال، والأخبار الصحفيّة، والنهايات المُشرعة على الاحتمالات، والرؤى، واليوميّات، والميتافيزيقيّة الساحرة.

هذا الزخم ينزع تدريجيًّا عن الرواية صفة البوليسيّة من دون انتقاصٍ لأيّ من عناصر التشويق المستمرّة بذات الوتيرة، حدّ أنني أحسب أن القارئ وقتما يفرغ من النص وتبوح له الجريمة بفاعلها إذ تتراص نثار الفسيفساء بنيانًا وتلتم جدارًا يعكس الحقيقة والسؤال على حد سواء، لن يتوقّف كثيرًا أمام الجريمة، بقدر ما ستتكاثر في دماغه الأسئلة عن العلاقة بين الأثر والبشر، الحريّة المكتسبة والعبودية الطوعيّة، الذاكرة والإرادة، الانتماء والمواطنة، الاشتهار والاشتهاء، وغيرها من الأسئلة…

فهل نحن من ننحت التاريخ، أم أننا بعض منحوتاته؟ هل الحريّة رفاهية قابلة لأن تؤول للنسيان؟ أهي حق مكتسب بالولادة أم حق ينبغي انتزاعه؟ أتعد الذاكرة حافظًا أمينًا على التاريخ؟ العام أو الخاص؟ أم أن الذاكرة الانتقائية هي إرث عربي خالص؟ أيمكن أن نعيد النظر في ترتيب هرم ماسلو للحاجات الإنسانيّة في ضوء ما قرأنا؟ أحقًا تأتي الحاجات الفسيولوجيّة والحاجة إلى الأمان في مراتبٍ أدنى من تحقيق الذات وقبول الحقيقة؟ هل إثبات الوطنيّة وترسيخ الهويّة مشروط بالانخراط في نوبات حراسة الحجر؟
وهل بات من المنطقيّ والضروريّ أن يقرّ العرب بأنهم لم يتخلّوا حتى اليوم عن عبادة الإله باخوس، رمز الخصوبة والخمر والمرح والمجون؟

نص مختلف، يناطح بعبقريّته تخوم الجنون، ويلامس بجنونه مقام النصوص الفذّة، عيسى ناصري مغامر ومجازف وبائع دمه! ما فعله في هذا النص أشبه بالجنون، لكن الدهشة الحقيقيّة تستتبُّ وترسخ كنتيجة لإحكام وتماسك وتجانس نسيج هذا الخليط السرديّ الذي لم يغب عنه عنصر واحد من مكونات المتعة، وأركان الجنون!
نص ممتع، مذهل، غريب، جديد، تقنية غير مطروقة، ومعانٍ وأسئلة كبرى نجح الكاتب في تمريرها، وصهرها في قالب سرديّ شيّق، يُجبر كل قارئ على التهام صفحات النص التي جاوزت الأربعمائة، في أقل زمن ممكن، بلا ملل، ومن دون ارتباك!

عناق امتنان، وتحية كبيرة، أوجههما إلى الكاتب عيسى ناصري، ولدار مسكيليانى، التي بات من المدهشات والمستنكَرات من الأمور، أن أقرأ نصًّا سيّئًا يحمل شعارها.

#محمد_سمير_ندا

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ