مدينة ميرال الطحاوي التي لا ترى الشمس… أرض الأحلام الهائمة…



قبل أيام، تحدثت عن دهشتي وانبهاري بطاقة الخيال لدى ميرال الطحاوي، وقدرتها على تشييد صروح هذا العالم الثري من نطفة خيال خصب في هذا النص الروائي، واليوم أتحدث باستفاضة عن هذه الرواية التي بلغت القائمة القصير للجائزة العالمية للرواية العربية، عن جدارة واستحقاق…
ولعل المتابع لمشوار ميرال الطحاوي، المقيمة في أميركا حيث تدرس الأدب العربي في جامعة أريزونا، خصوصًا من قرأ بروكلين هايتس، يدرك الهم والهاجس المقيم في عقل امرأة مصرية هاجرت إلى أرض الأحلام، تاركة في أرضها مضغة من روحها ودماغها المنشغل بتوثيق التراث الشفاهي وحماية الهوية المصرية.

خارطة لوطن من غبار…
تشيّد ميرال الطحاوي عالمها بتؤدة، وتبرع في رسم جغرافيّته باحترافية تُحوّل الخيال الخصب إلى واقع تراكمه الذاكرة من مشاهدات ومعلومات متفرّقة، لدينا “الشمس المشرقة” التي هي سرّة الأرض وفق تعبير ساكنيها، وهي منطقة غائرة في جسد الأرض كما السرّة في الجسد، أرض الشمس المشرقة هي وطن اللاجئين والمشردين والمتسللين الحالمين بحياة مغايرة لحيوات تركوها من ورائهم وانطلقوا كسهم أطلق ولا يعلم راميه أين يسقط ويستقر. فوق الأرض المشرقة تستقر على أعلي الجبال أرض “الجنة الأبديّة”، حيث الثراء والرفاعية وأناس ينظرون إلى سرة الأرض من علٍ، بكل ترفّع واحتقار، وما بين الشمس والمشرقة والجنة الأبدية تقع “تلة سنام الجمل”، كمنطقة وسطى بين المعاناة والفاهية، تلّة تعبّر عن طبقة وسطى باتت أقليّة، وتظل معبرّا لا بديل له لكل ما يبتغي من سرة الأرض إلى الجنة الأبدية مصعدًا. ينبغي هنا أن أتوقف عند أسماء بعض الأماكن التي اختارتها الكاتبة ودلالاتها المتروكة لتأويل القارئ، مثل متجر “جيش الخلاص” المعني بإعادة تدوير وبيع الأغراض المستخدمة، وجمعية القلب المقدس التابعة للمجمع الخيري، وحديقة الأرواح التي هي في واقع الأمر مقابر الشمس المشرقة.

ميتتان، وما بينهما طوفان من الأحلام الغاربة…
تستهل الكاتبة حكايتها بالموت، وتختتمها بموت جديد، وما بين الموتين ينهمر شلال الأحلام الضائعة، بحيث يتلوّن الموت بالعاديّة، ويغدو مجرد حدث عابر مثله كحوادث السارات وهطول الثلج. تبرع ميرال الطحاوي هنا في تصوير ثنائية الموت والغياب، وتنزع عنهما صفة المباغتة، ليكون موت جمال ابن نعم الخبّاز في النهاية مشهد اعتيادي في ظل تفشّي حالات الموت والقتل والغياب بلا سبب واضح، تمامًا كما يأتي ذكر موت ميمي دونج في النهاية في صيغة اعتياديةـ وإن كانت دلالة موت هذه المرأة/الأم – التي ينزّ الحليب من ثدييها من دون ولادة، وتجعل من صدرها وسادة لكل رجل يحنّ إلى صدر أمه، وبتوق إلى دفء طفولته وحالته الجنينيّة الآمنة – ليبرهن ألا مخرج من هذه الأرض التي تبتلع الأحلام وتئد الحالمين.

الهاجر والمهجور: الطاقة الطاردة في الشرق…
ولدينا في الشرق طاقة طاردة هائلة، كأن أوطاننا منجنيق ضخم يستمتع بإلقاء أبنائه بشكل عشوائي في أي أرض بعيدة، فحكايات نعم الخباز، وأحمد الوكيل، ونجوى سالم، وميمي دونج، وياسمين العامري، وعلياء الدوري وسليم النجار، يستقر وراء كل منها مسوّغ حقيقي لهجرة قسرية، فنعم كانت زائدة عن حاجة أبيها، مشوّهة لا يطلبها الخُطّاب، ولا تجد لها مستقرًّا إلى تحت قدمي المرأة ذات الأوجاع، تلك الكهلة التي تشبه وطنًا اندثر مجده وزالت هيبته لكنه لم يزل مصرًّ على قهر أبنائه؛ هربت نعم الخباز إذن من الفقر وانعدام الجدوى والرفض. أما أحمد الوكيل فكانت هجرته هربًا من العار الذي خلّفته أمه قبل رحيلها، ثم العار الذي التصق به في إثر إيواء أم حنان وابنتها زينب في داره، ثم تعرضه للخداع على يد مدرس العلوم الذي كان نبيًّا زائفًا يشبه آلاف الأنبياء الزائفين الذين لم نزل نترنّم بالأغاني التي تلبثهم ثو المنقذ وتدعو لهم بخلود يمنحهم عمرًا أطول من عمر الأوطان؛ هرب الوكيل إذن من العار والزيف والضياع. ميمي دونج فرّت من الحروب في جنوب السودان، وكذلك ياسمين الدوري وسليم النجار، أما نجوى سالم فقد هربت من مصائر الفقر والعهر واليتم وآمال الثراء الواهية التي عششت في رأس أمها. والنماذج في هذا النص كثيرة لا يتسع المقام لذكرها مجتمعة، ولكن ربما يستوقفني على وجه الخصوص نموذجا معلم العلوم الذي ارتدى ثوب النبوة لحصد السطوة والشهوة، والأستاذ الجامعي المتحرّش بأحلام الفتيات “يوسف الأزهري” (الإحالة هنا قوية وهامة).
ولعل اللافت في هذه القوى الطاردة للأحلام التي تُجبر مواطني الشرق على النزوح غير المأمون إلى سرّة الأرض حيث يتصورون أن حبلاً سرّيا لم يزل قادرًا على تغذيتهم بآمال جديدة، أن الوجع واحد، والقهر واحد، والفقر واحد، والحرب واحدة، والطغيان واحد وإن تنوّعت طرائقه.

المستقبل كنتاج للحاضر، والماضي كمضارع ممتد الأثر…
الجاهل بالتاريخ، ومن لا يقدر على الفرار من براثنه؛ لن يقرأ المستقبل. هكذا كانت حال نجوى حين فشلت في ترجمة كتاب المسالك والممالك، وكذلك جاء فشل أحمد الوكيل في خلق مستقبل مختلف كنتيجة لفشله في الفرار من أثر الماضي على الحاضر، ونعم الخباز تعيش يتشوه خلّفته أظافر الماضي. ترصد الرواية خلفيّات الشخوص عبر استدعاء الماضي وضفره بزمان الحكي، بحيث تتضمن كل حكاية فرعية حبكة دائرية تبتدئ من الزمن المضارع، ترتد إلى الماضي، قم تعود لتتوقف على شفا مستقبل بات القارئ على استشرافه.

المكان: بطل للحكاية…
سمعتُ بعض الآراء التي توقفت أمام سلبيَات هذا النص، إذ كنت مقاطعًا لقراءة المقالات العديدة التي تناولت هذه الرواية حتى أنتهي من قراءتها بمعزل عن الآراء النقدية، وتمحورت أغلب السلبيّات حول تشتت القارئ بين أكثر من شخص وخيانة النص لشخوصه عبر تركهم والتوغل في حياة شخوص آخرين بشكل دوري، وحسب ظني المتواضع، فقد كان المكان هو بطل هذا النص، وإن كانت مفتتح الحكاية قد أوحى للقارئ أنه بصدد قراءة حكاية نعم الخباز، فواقع الأمر أن نعم الخباز كانت خيط المسبحة الذي اجتمعت به فصوص الحكاية، والحكاية هنا حكاية الشمس المشرقة كما جاء في العنوان الخدّاع، فلا شمس تطالها عيون القابعين في سرّة الأرض، ولا شروق يصافح وجوههم المكفهرة. من هنا وجدت التناوب بين الحكايات منطقيًّا طالما انغرس جذرها في مكان بعيد، وامتدت فروعها وثمارها الفاسدة إلى الشمس المشرقة. حسب رأيي كانت هذه التقنية السردية بارعة ومناسبة لإطار الحكي. التضاد هنا حاضر بكثافة تستدعي النقاد للوقوف عليها الواحد تلو الآخر، فالأرض المشرقة هي أرض الغروب الدائم، حديقة الأرواح مقبرة يختلط فيها رفات الأموات بلجوء الأحياء

كلاب في البحر، وبشر على اليابسة…
استوقفتني الإحالة التي -ربما- أرادتها الكاتبة بتكرار رصدها لحياة كلاب البحر، لا سيما طقوسهم في مواسم التكاثر على شاطئ الشمس المشرقة، وقد صُوّر لي أن رصد سلوكيات هذه الحيوانات قد قُصد بها خلق حالة من المقارنة مع حيوات المهاجرين الغرباء في أرض الشمس المشرقة، قد يتوقف قارئ أمام المتشابهات، وقد يتوقف آخر أمام الفوارق الشاسعة بين الاستسلام للفطرة/الهوية ومحاولة الانسلاخ عنها. أيًا كان ما قد يستنتجه القارئ؛ وجدت الرصد ممتعًا، وتوصلت إلى تأويلي الخاص الذي لا أعرف لو قصدته الكاتبة، أم قصدت شيئًا آخر استغلق عليّ.

أين تكمن المشكلة؛ في سرّة الأرض، أم المنجنيق؟
قرتُ للتوّ حكاية رويت بين قوسيّ الموت، حكاية عن أحلام ضائعة وفرص هدرة على أعتاب الأوطان الخائنة. لا يمكن أن تصنّف هذه الرواية ضمن الأدب الديستوبيّ، فهي قطعة حيّة من الواقع المؤلم لملايين العرب المهاجرين. من البديهي أن يربط القارئ بين الشمس المشرقة وأميركا بوصفها وطن الأحلام منذ قرون، ولحقيقة إقامة الكاتبة في أريزونا، لكنني أحسب أن الفضاء المكاني لهذا النص لا يصحّ أن يسيّج داخل الحلم الأميركي القديم والمستمر، بل هو صالح للإسقاط على كل مكان يلتجئ إليه ساكنو الشرق المبتلى بأطماع أبنائه قبل العرب، الحكاية هنا تهدم صورة أرض الأحلام أينما استقرت في عقل القارئ، وسرّة الأرض ستظل غرسًا في الهواء وإن لامس المهاجر تخوم النجاح وارتقى مصاعد الثراء إلى الجنة الأبدية. لن تشرق الشمس على المهاجر، لن يعرف الجنة الأبدية ولا المؤقتة، إنما ستتمدد فيه حالة الشتات حتى يطفو فوق سطح العالم كما الطيف والغيم، لا يذكر من أين أتى، ولا يعرف بأي أرض يموت! السؤال المـُعلن هنا يدور حول الهوية وأزمتها العربية المعاصرة، فأي هوية ينتمي إليها سكان الشمس المشرقة، وأي هوية تركوها وراءهم؟ وهل نجحوا أساسًا في الانسلاخ عن هويتهم، أم تُراها ظلّت حجرّا راسخًا يعيق اندماجهم في مجتمع هجين؟ بيد أن السؤال الأهم هنا، وإن لم يُسأل بشكل صريح، وهذا أفضل، يجب أن يكون عن المسؤول، عن الجاني، ما الذي جاء بهؤلاء المهاجرين إلى سرّة الأرض التي انقطع حبلها منذ قرون؟ من المتسبب في ابتلاع أحلامهم وانسراب سنواتهم في هجير مستديم؟ أيمكن أن نلوم أرض الشمس المشرقة لاستقبالها أشلاء أرواح ورماد أحلام؟ أم يُفترض بنا أن نلوم المنجنيق الشرقي والعربي الهائل، الذي لا يعرف من فنون الحرب سوى إلقام قوسه المشدود إلى السماء؛ حطام أبنائه؟

بغض النظر عن نتيجة البوكر بعد ساعات، والتي لم أزل حائرًا حيال استكناه الفائز بها من بين المرشحين، فقد قرأت للتوّ واحدة من أفضل الروايات المصرية التي صدرت خلال هذه الألفيّة.
تحيتان مستحقتان للكاتبة القديرة ميرال الطحاوي، الأولى لكتابتها الثرية والملهمة، والثانية لتمثيل مصر في هذه الاحتفالية الثقافية الأهم. تحية أخرى مستحقة لدار العين، التي باتت خير سفير يمثل دور النشر المصرية، بحضورها المستمر فوق منصات المحافل الأدبية.

#محمد_سمير_ندا

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ