وقائع استشهاد سمير ندا…

إنطباعي كقارئ عن رواية أبي…

تتناول هذه الرواية حكاية جيلٍ شرخت النكسة جدران حلمه، ثم ترنّح بين هويّتين متناقضتين، فمصر التي عاشت ذروة مدّها الثقافي لأجيال سبقت نكسة ٦٧، وآمنتْ بأسس الاشتراكيّة كمعادل أوحد للمساواة، ما عادت تشبه مصر التي حرّرت أرضها لكنّها تنازلت في ذات الوقت عن إرثها الثقافي العريق، فانغمستْ في انفتاح اقتصادي وأخلاقيّ ومجتمعّي غير محسوب.

إبراهيم النوحي، بائع الكتب، ابن الأسرة المهاجرة إلى القاهرة عقب طوفان قنا عام ١٩٥٤، المثقف المولع بالقراءة، وحفيد خليل النوحي بائع الكتب في سور الأزبكية، يخوض رحلته الخاصة للبحث عن هويّته الحائرة، إذ أن أباه البحار (أبو زيد النوحي) غائب في رحلة بحثٍ أبديّة عن الأصل والجذور، وأمه المغربيّة حفيدة بني هلال مخلصة لمناسك الصبر والانتظار. يشق إبراهيم طريقه في دروب ما عادت تألفه، بين بنايات تناستْ ملامح جده وأبيه، يحاول أن يصمد في فصول حكاية لم ترِد في كتب جده، قوامها مجتمع يتناحر فيه فصيلان، أولهما جشع انفتاحيّ، وثانيهما متشدّد منغلق الآفاق، يحمل إبراهيم مشعل أفكاره ويعارض الفريقين، فيُمضي قسمًا غير يسير من حياته بين السجون، ومستشفى الصحة النفسيّة بالعباسيّة.

ما بين العودة إلى التراث متمثلاً في سيرة بني هلال، وترسيخ أهميّة الثقافة كمنارة أخيرة تحمي الوطن من الغرق، والتمسّك بفضائلٍ باتت من نوافل الزمن كالشرف والثبات على الرأي، يسعى إبراهيم إلى حماية أسرته الصغيرة من غدر الزمن الحرام، وحبيبته شوق تعضّده فتغدو فُلك نجاته في زمن الطوفان، لكن ولده إسماعيل يكون أول القرابين التي تُسفك أحلامها على مذبح حياة لا تؤمن بالمعجزات، لم يفتدِ إبراهيم ولده بأضحية، وما أراد يومًا حياة النبوة، لكن الأقدار أصرّت على أن تمنحه الألم، فقط الألم، من دون كرامات الأنبياء.

ملحمة روائيّة ثرية في تفاصيلها، ترشق سهام الحقيقة في صدور الأدعياء، وتغزل الحاضر على نول الماضي لتستشرف المستقبل، وتحمل رسالة مباشرة مفادها أن شيوع الجهل كفيل بتحطيم الأمم، وأن شعلة الثقافة لو انطفأت، ارتدت بنا الحياة إلى عصور الظلام. شخصيات تنوّعت ببراعة بين الحقيقي والمتخيّل، وحكايات تشابكت بين واقعية الحاضر وأسطوريّة التراث. سيتوقف القارئ كثيرًا أمام اختيار أسماء الشخوص، سيتعلّق بطرف جلباب الشيخ نور، الحادي والمؤذّن، سيلتقي بنجيب محفوظ ويحيى حقي وأم كلثوم وعبد الرحمن الشرقاوي وعادل كامل وعبد المنعم إبراهيم ومحمد حسنين هيكل، سيرتحل مع الخال شرقاوي إلى جزيرة الوراق، سيكره دياب، ويبحث عن أبي زيد، سيحب شامة أم إبراهيم، سيستمع إلى حكم الجازية، وسيبكي إسماعيل.

كان إسماعيل هو رمز الجيل القادم الذي ضحّى به وطنٌ بات يرتدي الملابس المستوردة، ويدخن السجائر المستوردة، ويعتنق كل فكرٍ مستورد، ويكفر بكل ما يتسق مع تراثه وتاريخه. استشهاد إسماعيل هو وصمة على جبين الوطن، لكن سمير ندا، على شدة الألم الذي استدعاه وبثّه في أوراقه، أراد أن يذكّر القارئ أن الأمل قائم، لأن إسماعيل سيولد من جديد، ولأن أبا زيد، البطل الغائب دائم الحضور، سيعود عما قريب، ولن يتحول إلى بطل آخر من غبار، كذاك الصامت في ميدان الأوبرا.

تقنيات السرد الفريدة في هذه الرواية كانت محل إشادة النقاد وقت صدورها، وكانت موضوعًا بحثيًا في أكثر من رسالة ماجستير لطلّاب الآداب. فهذه الرواية كانت ولم تزل إحدى أهم الروايات العربية الصادرة في القرن الماضي، ومن أكثرها تفرّدا على صعيد التقنية السردية التي ارتكزت على تداخل الأصوات وتبادل الضمائر والتشظي الزمني واشتباك الواقع بالخيال، علاوة على اشتباك الشخوص مع الكاتب، في لوحة شاسعة حوت أغلب عناصر البلاغة اللغوية.

أعرف أن شهادتي مجروحة، لكنني أثق ان القارئ سيدرك عقب قراءة الرواية كم كنت بخيلاً في عرضي لها…

منشورات إبييدي -ibiidi Publishing
#وقائع_استشهاد_إسماعيل_النوحي
#محمد_سمير_ندا

See less

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ