“مذنبون” سعيد خطيبي…بين تشابه الوقائع العربية، وتوارد الهموم، ونبش التاريخ…

هذه هي قراءتي الثالثة لأعمال الكاتب الحزائري المتميّز سعيد خطيبي، أحببت كثيرًا “أربعون عامًا في انتظار إيزابيل”، وأحببت أكثر روايته “حطب سراييفو”، وما زلت منحازًا لها، ثم جاءت روايته الأخيرة المتوّجة بجائزة الشيخ زايد، فرع المؤلف الشاب؛ “نهاية الصحراء”، لتؤكد تمكّن هذا الكاتب من تطويع أدواته الإبداعية، فنحن إذا نقرأ نهلية الصحرا، نجد أننا أمام كاتب وإنسان مشحون بهموم وطنه حدّ إطلاق صرخات الإدانة، ورشق سهام الاتهام في صدور الكافة.

مراوغة التصنيف والقولبة…

لسنا أمام رواية بوليسيّة بكل تأكيد، ولكننا أمام نصّ أدبي مصبوب في قالب تشويقي، بينما الغرض منه هو تأريخ مرحلة مفصليّة في تاريخ الجزائر الحديث، وتحديدًا نهاية الثمانينيّات، والانتفاضات الشعبيّة في عهد الشاذلي بن جديد وما أسفرت عنه، ومن ثم؛ تشريح الطبقات الاجتماعية وقتذاك، مع إضاءة هامة على مصائر أفراد جيش التحرير، ما بين المتلوّن والمتربّح، والمقبور في مجاز النسيان.
يستهل خطيبي روايته بجريمة قتل، زكية أو زازاز، المطربة شابة، المغامرة والطموحة تلقى حتفها، والشكوك تحوم حول المقربين إليها حيث تؤدي فقراتها الغنائية في فندق الصحراء، لكن التحقيق يتجاوز القاتل والقتيلة، ويثبت إدانة كل الأطراف تقريبًا.

توارد لافت، وهموم متطابقة…

لا يمكنني هنا تجاوز التشابه الواضح بين الحبكة البنيوية لنهاية الصحراء، وفيلم “المذنبون” الذي كتبه نجيب محفوظ وأخرجه سعيد مرزوق عام ١٩٧٥، وأثار ضجة كبيرة فور عرضه، ففيلم محفوظ بدوره يتخذ من مقتل الممثلة سناء كامل (سهير رمزي) مُفتتحًا لحكايته، مُستخدما الحادثة كطريقة لرفع الغطاء عن إناء ينضح فسادًا، ينزاح الستار فنتعرف إبان التحقيقات على كل سفراء الفساد وسُرّاق الوطن؛ المقاول المرتشي، وناظر المدرسة الذي يسرب الامتحانات، والصديق الخائن، والسياسي الداعر، ومدير الجمعية التعاونية الذي يبيع الأغذية المدعّمة في السوق السوداء، والطبيب الشهير الذي احترف عمليات الإجهاض غير القانوني. هكذا يطلق محفوظ، عبر ذلك كله؛ صرخة استغاثة مدوّية يعلن من خلالها أن الجميع: مذنبون.
أكد لي الكاتب -خلال مناقشة الرواية في نادي صُنّاع الحرف- أنه لم يشاهد فيلم المذنبون من قبل، وبالتالي فنحن أمام حالة فريدة من توارد الهموم قبل الخواطر، يدعمها تطابق أوجه الفساد في البلدان العربية حدّ التطابق، من هنا تنهض حكاية خطيبي على عتبة تكاد تطابق عتبة محفوظ، لكن خطيبي يمضي بحكايته فوق قضبان جزائرية خالصة، تتسق مساراتها ومشاهدها المُنتقاة بعناية مع مخزونه الشخصي من القلق والغيرة على وطنه المأزوم بين خانات الماضي والمضارع.
ولكن؛ لسوء الحظ، وربما من سبيل المفارقة، فقد كان قرط الضحية هو مفتاحَ حل الجريمة في الرواية، تمامًا كما كان في فيلم محفوظ. هذه الأمور كنت أتمنى لو انتبه إليها المحرر، ولكن؛ تشفع له وللكاتب جودة النص.

تقنيات السرد

من مواطن القوة في هذا النص حسب رأيي؛ تنوّع ألسنة الحكائين، وكثافة الرواة حد تحاوزهم عشرة رواة.
كوّن خطيبي فريقًا من الرواة وأطلقهم في ما يشبه سباقًا يجري بنسق التتابع، فكل راوٍ يسلم خيط الحكاية إلى من يليه، وهكذا دواليك، لتدور الحكاية بصورة دوّاميّة حول محور صوري للحدث هو جريمة القتل، لكن القارئ بينما يطوف حول هذه الخدعة الاستهلاليّة، تتبدّى له وجوه تسقط أقنعتها تباعًا خلال هذا الطوفان السردي المحموم.
وموطن القوة هنا هو إحكام الكاتب للروابط بين الشخوص، وتوضيح الصلة بين كل منهم بالجريمة رغم تباين المسافات، ثم جعله من شخصية إبراهيم (الشاب المثقف الرافض للخدمة العسكرية، والباحث عن قبر أبيه الذي استشهد في حرب التحرير) عقرب ساعة أو بوصلة تبيّن للقارئ مسار الخط الزمني للأحداث، خصوصًا وقد منح لكل راوٍ الحق في الإكثار من الاستدعاءات التي ينجلي بها التاريخ الشخصيّ لكل متكلم وتاريخ علاقته بالقتيلة.
برع خطيبي كثيرًا في استخدام هذه التقنية الصعبة، فحافظ على كرونولجيّة الحكاية التي استمرت حسب النص لشهر واحد، على الرغم من تفتيت الزمن على ألسنة الرواة، بحيث أمسى لكل منهم الحق في تحريك عقارب الساعة حيثما أراد.
لا يجوز أن نختتم هذه الفقرة من دون الإشارة إلى تجميد الزمن عبر توثيق تاريخ الأحداث، وتسييل المكان بحيث يصلح للإسقاط على أي بقعة صحراوية على أكراف المدن الجزائرية، كان المكان في هذا النص قطعة “بازل” مرمة، تصلح أن يضعها القارئ في أي مربعٍ خالٍ في خياله.

الشخوص: خلفيات ودوافع وأدوار

للحكاية الرئيسة، أو الطبقة الظاهرة من هذه السرديّة: أربعة أضلاع؛ إبراهيم، المثقف الفقير، صاحب محل الفيديو الذي يعشق المحامية نورة ويبحث عن قبر أبيه. حميد، ضابط الشرطة متأرجح النزاهة متعدّد العلاقات. نورة، المحامية غير المتزوجة التي تدافع عن ابن خالتها المتهم وتنخرط في علاقة مع إبراهيم. وبشير، المتهم الرئيسي الذي أحب القتيلة زازا وأحبته وخططا أكثر من مرة للزواج، ولولا رفض أمه لتزوجها.
لكن الحكاية هنا كجبال الثلج، طبقتها الظاهرة لا تمثّل إلا أقل من خُمس حجمها الحقيقي، وحكاية زازا ليست سوى بوابة سرديّة تسحب القارئ برويّة إلى حكاية وطن تكالبت عليه الضباع، الخيانة حاضرة في كل الطبقات، بداية من خيانة الرفاق في جيش التحرير لبعضهم بعضًا، مرورًا بخيانة الذات، وصولاً إلى سلسلة من الخيانات أودت بزمية إلى نهايتها المأساوية. هذه المرويّة تميط اللثام عن جثة التاريخ المرويّ، وتعيد كتابة بعد الفصول غير المحكيّة من خلال تسليط الضوء على نماذج يمثل بعضها بداية التخلّي عن حلم الوطن بالتحرير (ميمون بلعسل أنموذجًا)، وصولًا إلى نماذج نست وتناست أهدافًا أريقت لأجلها دماء مليون شهيد.
كتب خطيبي حكايته عن مذنبين آخرين لا يشبه تكوينهم مذنبي محفوظ، لكنهم يتشاركون الوفاء لمناسك الفساد والخيانة، كتب حكاية ليس بين أوراقها من يستحق صفة البطل، فشيّد بنيانًا سرديُّا ينهض على أصوات المهزومين، والمذنبين.

عمد خطيبي إلى تبسيط لغة الرواية، وتجاوز المشهدية في ما يخص المسرح المكاني، وشحذ قلمه لرسم الشخوص من الداخل، وقد أجاد في اختيار اللغة على وجه الخصوص، نظرًا لتعدد الرواة وتعدد خلفيّاتهم الفكريّة والثقافيّة، فجاءت المونولوجات الداخلية بعيدة عن شبهة التلفيق واستعراض الزخرف اللغوي، كما أرى أن تطريز الحوار بالمفردات الجزائرية المحلية، منح للرواية درجة عالية من المصداقيّة.

ختام

نص آخر متميّز لسعيد خطيبي، مختلف عما سبقه من حيث البناء والتقنية واللغة، خاض من خلاله مغامرة كبيرة عبر وضع إحدى عشر راوٍ فوق منصة السرد، لكنه وفّق في ذلك وأجاد، سلّط الضور على عوار مجتمعي يصلح للإسقاط على أي بلد عربيّ، منح القارئ جرعة فائقة من التشويق من دون السقوط في فخ السطحيّ والمباشرة، كنب نصًّا متعدد الطبقات، فأجاد في حبك الحكاية الظاهرة وبرع في تمرير الحكايات المطمورة خلف صفحات التاريخ الرسمي، وتماسّت حكايته مع فيلم محفوظ، لكنها احتفظت بخصوصيّتها، وإن كان هذا التشابه سيظل حاضرًا في أذهان القرّاء حسب ظنّي، خصوصًا كبار السن، الذين ينتمي لهم كاتب هذا السطور.

عمل متميّز، أعجبني كثيرًا، استمتعت بقراءته، وأضاف إلى رصيد الكاتب لديّ.
شكرًا سعيد، ومبروك الجائزة 🙏🌹

#محمد_سمير_ندا

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ