الأفق الأعلى… ومحاولات التسديد تجاه مرمى الحياة

استهلال

ماذا لو كان الموت هو الراوي لحكاية تلخص معاناة البشر حيال التسديد في مرمى الحياة، وتسلط الضوء على وهن البيوت المثقلة بإحباط ساكنيها، وتوجز عبر ومضات كاشفة حقيقة الالتباس الذكوري في تعريف المرأة وتصنيفها، من خلال الخلط المدمر بين مختلف أدوارها فوق مسرح الحياة؛ كأمٍ وكزوجةٍ وكعشيقة؟
الموت طيفٌ يسبح فوق رؤوس الشخوص، حقيقة دامغة تراوغ الظهور بالتخفّي، لكنه يظل على ضبابيّته السارد الأكثر صدقًا والشاهد الأكثر عدلاً على وقائع حياتنا. ومن خلال هذه الزاوية المختلفة لالتقاط المشاهد، والمنظور السماويّ المحايد لتحليل تعامل البشر مع مفردة الحياة، ترتكز رواية “الأفق الأعلى” للروائية السعوديّة فاطمة عبد الحميد على بنيان سردي مغاير للشائع والرائج في تقنيًات الكتابة، لتُنتج حكاية بهيّة تُعارض عُصارتها كآبة الموت المشهرة من صفحاتها، حدّ أن الموت نفسه يفقد قسمًا غير يسير من هيبته عقب قراءة هذه الرواية، أو أنه على أقل تقدير؛ يخرج منها وقد بات أقرب إلى قلب القارئ عن ذي قبل.

لا سليمان… ولا ريّس!


لم يكن لـ “سليمان الريّس” من اسمه ثمّة حظ أو نصيب، أو كما أفاد الموت نفسه؛ الحظ أو النصيب هو الكلمة التي يستخدمها البشر حين يعجزون عن فهم قرارات القدر، إذ أن سليمانًا لم يرث من اسم النبي قدرات الأنبياء الإعجازيّة، فلا هو كلم الطير ولا الهدهد التفت يومًا تجاهه، كما أنه لم يمارس دور “الريّس” طيلة حياته القصيرة نسبيًّا، إذ ظل مسلوب الطفولة في الصغر، منبوذًا من مرابع الرجولة حين تسنّى له الاضطلاع بالدور الذي رفضه طفلاً. من هنا فإن اختيار اسم الشخصيّة الرئيسة في هذه الرواية يعكس بطريقة ما خطأ التصور الإنساني الدائم بالتفوق الزائف، بل إنه ربما يسخر من الشعور الفطري لدى كل إنسان بالتفوق على أقرانه، فالموت هنا معطف وحيد تتبادله أجساد العابرين من هذه الحياة.

طفولة مبتورة، ورجولة مؤجلة…


يموت الأب، فيجد سليمان ابن الثالثة عشر نفسه في مواجهة غير متكافئة مع أمه “حمدة”، بغية الاضطلاع بمهام التخصيب في مزرعة الأسرة، وفي ذات الوقت، نتعرف إلى فتاة لطّخ القدر وجهها بوحمة ألقتها بعيدًا عن مدارات راغبي الزواج، ولأن سليمانًا هو ابن حمدة، ولأن الفتاة “نبيلة” هي ابنة خالتها؛ يعقد قران الصبي سليمان على الشابة نبيلة، بينما هو في الثالثة عشر وهي في الرابعة والعشرين، وبينهما إحدى عشر سنة وأم عنيدة كالجبال، وحياة فُرضت على الطفل، وأخرى ارتضتْ بها فتاة ترفض الشعور بالنقصان. كان زواجًا ثلاثيّ الأطراف، قدمت من خلاله الكاتبة نموذجًا معاكسًا لما شاعت كتابته عن زواج القاصرات، فالضحية هنا صبي لا صبية، والجانية امرأة لا رجل، لكن الرواية تنساب بحرفيّة تنأى بها عن ترسيخ أكاليل الذنوب فوق رأس طرف من دون الآخر، فالكل يحاول التسديد في المرمى الذي شُبّه له، والكل في رهان خاسرٍ مع حياة لا توزع الأنصبة والفرص وفق علوم الرياضيّات.
ويحلق الموت في فضاء فسيح تتضاءل فيه الأرض أمام ناظريه، يلفّها بإصبعه حول محورها فتأتمر بأمره، لتتراكم فوق أعمار الشخوص ثمانية وثلاثين سنة، فها هو سليمان رجلٌ في الحادية والخمسين، أبُ لثلاثة شبان، وها هي زوجته نبيلة تلتقي باسمة ملك الموت وهي في الثانية والستين، فتهمس في أذنه برجاء أخير “لا تقبض روح سليمان قبل إحدى عشرة سنة أخرى”، كأنها تريده أن يعيش من السنين ما عاشته، لا أكثر ولا أقل، مواصلة بذلك دورها الأمومي السلطويّ الذي قبلت به مُذ كان سليمان يهرب من فراش الزوجية ليلعب الكرة مع أقرانه، فتعيده أمه “حمدة” جارّة إياه من أذنيه إلى فراش نبيلة.
يجد سليمان نفسه في خواء عظيم، يستقر في برزخ من عدمٍ لا يكاد يميز فيه ملامحه، غاب ظل نبيلة ومن قبله ظل أمه، فامتلك لأول مرة حرية التصرف واتخاذ القرار، فهل يستعيد شبح طفولة هاربة، أم يمارس منفردًا دور الرجل من دون عبارة أمه الراسخة في أذنيه الكبيرتين “افعل مع عروسك ما يفعله الرجال”؟

بيوت من أعواد الثقاب…


لماذا كان على الطفل أن يفعل ما يفعله الرجال بينما جلّ انشغاله منصبّ على لعب الكرة وتشييد البيوت من أعواد الثقاب؟ كانت هذه الثيمة الحاضرة بقوة في الرواية شديدة التفرّد والخصوصيّة، فسليمان يحب أن يشيد البيوت من أعواد الكبريت والغراء، أحبّ ذلك طفلًا يطارده زجر أمه، ثم أحبه أبًا يشارك أولاده هوايته، بيد أن نهر الأم كان يتسرّب إلى مسامعه طوال الوقت، حتى عزف عن هوايته لسنوات، قبل أن يستعيدها بوفاة زوجته. تجسد هذه الصور المتراكمة بين فصول الرواية أكثر من سؤالٍ هام، فهي تتساءل عن مفهوم البساطة؛ فلماذا لا تكون حياتنا بمثل هذه البساطة؟ لماذا لا نُمنح الحق في السعادة ولو كانت مجانيّة؟ الإجابة تدين المنطق الأبويّ الذي يحدد لكل منا الدور الذي يتوجب عليه القيام به، حتى لو لم يناسبه، وهو ذاته المنطق الذي يجعل كل سعادة وكل هواية مشروطة بقبول وارتضاء العقل البطريركي القابع في جمجمة كل أبوين.
في الوقت ذاته، وإذا ناظرنا الأمر من منظور الموت -الذي يمرر بين الفصول قيامه بمهامه الروتينية في قبض الأرواح حتى يغدو الموت في عيني القارئ أمرًا بديهيًّا معتادًا يمهّد للأحداث المؤجلة- فإن كل البيوت التي سكنها شخوص الرواية كانت من أعواد الثقاب، كلها هشة مهما أثقلها ساكنوها بالغراء، فعلى سبيل المثال، ابنيّ سليمان؛ باسم وقصيّ، يعيشان في قصور من رمال، أو في بيوت من عيدان كبريت سريعة التآكل، باسم لا يشعر بالرضا مع زوجة محبّة، ويبحث عن حب عاصف يرضي روحه القلقة، بينما قصيّ ناسك يتعبّد في هيكل زوجته المقدس، والزوجتان هنا على النقيض، فمنال زوجة باسم تصرّ على التمسك به فتضع على أعواد الثقاب المزيد من غراء الأجنة، فتنجب له ثلاثة أولاد تظن أنهم سيطيلون الوقت الفاصل بين بناء البيت وانهياره، أما أسماء زوجة قصيّ فهي تحبّه بطريقة باتت شائعة في السنوات الأخيرة، إذ يظل قصيّ في نظرها شيئًا مسلّمًا به، عاشق يمنحها الشعور بالتفرّد ولا تكلّف نفسها عناء مبادلته القبل والكلمات، تظن أنه امتلكته حتى تفقده فتقدر أهمية الحيّز الذي عاش يشغله. كذلك الحال مع الجارة سمر وزوجها فاضل، وهكذا دواليك. تتجلّى هنا حالة الالتباس لدى الرجل أمام بهاء المرأة وهيبتها، فسليمان أراد طفولة فحصل على زوجة وأم بديلة، وباسم حصل على زوجة محبة فأراد عشيقة تسكن شرفات الخيال، وقصيّ حصل على زوجة لكنه أرادها أمًّا تحتوي وعشيقة تهدهد وتتلو من ورائه ترانيم الغرام، وأمجد يبحث عن حياة تخلو من مفردات حياة أبيه سليمان، أما فاضل فقد تمسّك بطفولته، محتفظًا بسمر كنُزلٍ قديم يلجأ إليه عندما تقتضي الحاجة.
إذن؛ كل العلاقات هنا شديدة الواقعية بعيوبها، فكل حبٍّ آيل للفقد، وكل حبيب عرضة للهجران، كل سائر يترنح من دون عكّاز، وكل عكّاز قادر على خيانة صاحبه، لأن العكاكيز كلها مصنوعة من أعواد الثقاب.

لفافة موتٍ تحوي نطفة حياة….


كان موت نبيلة هو هدية القدر إلى سليمان، لم يرجُ هذا ولا تمناه، إذ كانت هي الأم التي تعلّم وتحمي وتوجّه، والزوجة التي تمتلك الجسد الذي ينبت الثمرات، وعلى الرغم من أنها لم تقم يومًا بدور الحبيبة، فإن سليمانًا لم يكرهها كما هو ميثاق الطفولة تجاه الأمهات، لكن انزياح ظلها الثقيل يمنحه شعورًا بالوجود لم يختبره من قبل.
والنافذة المطلة إلى مطبخه تنقل له نبضات وأصوات وأغنيات تبث البهجة وتصلها بالوعود، وامرأة أربعينية أسكرتها الحياة حتى تخبطت في جدرانها تُطلّ على عالمه بوجه صبوح يكنس التعب والضجر من شرفتيهما.
يكتشف سليمان قدرته على الحب منفردًا من دون وصاية، يتعرف على ملامحه في وجه سمر وصوتها وعاطفتها المتنامية، يعاود بناء بيوت الكبريت فتبهرها دقتها، يجد أخيرًا من يثني على صنيعته، فيسير لأول مرة ومن ورائه يمضي ظل واحد، لا ظلين ولا ثلاثة كما اعتاد.
يقرر سليمان مصيره، لكنه كأي طفل حديث العهد بالحياة، تنتابه حالات من التلعثم تُعرقل تصرفاته وبعض عباراته، لكن الجارة سمر لا تبالي، وسليمانًا يتحسس خطاه حتى يتقن المشي على حبل الغرام، حتى تستجد أمور وتقع الجارة في المحظور، فتنفرط حبّات المسبحة قبل أن تلتم في خيط وحيد.

ونطفة الحياة تحوي بذرة موت مؤجل..


هكذا هي دورة الحياة التي ننكرها، الموت، حديث الصباح والمساء كما قال العم محفوظ، هو النهاية المؤجلة التي نجاهد لتفاديها كأن الأمر جائز أو قابل للتحقق، وكم هو عجيب ما نفعله نحن البشر بين صرخة الولادة وشهقة الرحيل، هكذا فكّرت وأنا أطوي الصفحة الأخيرة للرواية عقب القراءة الثانية لها، فكل هذه النماذج التي مرّت في الحكاية تتصرّف، مثلي ومثل قارئ كلماتي الآن، كأن الموت فرضيّة لا حقيقة راسخة، وكأن الموت يقبل التفاوض، فيّقرّ بالتأجيل أو يرتضي بالتسويف.
لن يلتزم الموت بوصيّة نبيلة، وإن ظل يتابع حياة سليمان وأسرته في إثر وصيّتها التي حيّرته، ستفارق الأحداث بين سليمان وسمر، لن يشعر القارئ أن سليمانًا قد شرخ قلبه حتى الفصل ما قبل الأخير، إذ أن الرجل الخمسيني سيواصل حياته ويتقرّب من أبناء وقفت السيدة نبيلة عائقًا بينه وبين التعرف عليهم عن كثبٍ لكثرة وصاياها وتدخلاتها حد اختيارها لزوجتي باسم وقصي، سيتقرب أكثر من أمجد، العازب الوحيد بين أبنائه الذي يود لو يتخلص من أذنيّ أبيه الضخمتين المحرِجتين، سَيُسّران إلى يعضهما بما لن تكشف عنه الرواية، كما سيكون أمجد العارف الوحيد بحكاية الغرام بين سمر وسليمان.
يقرر الأب استكمال مباراة اختُطف منها منذ ثمانية وثلاثين سنة، يشاركه الأبناء والأصدقاء والأحفاد، يحاول أن يعوّض ما فاته، أن يمارس الشيء الذي أراد ممارسته كالرجال؛ كرة القدم.
يتألق الخمسينيّ في المباراة، يراوغ ويسدّد، يراقص الكرة كمن يراقص معشوقة عادت من سفرٍ طويل، يرتقي ليسدد الكرة بضربة هوائية، يُسكن الكرة الشباك، وقبل أن يسقط أرضًا، يحتضنه راوي الحكاية.

ختام
حكاية تبدو بسيطة لو قرأت في عُجالة، لكنها تأخذ القارئ إلى أبعاد فسيحة من التأمل والتفكّر لو منحها الوقت والانتباه، فهي حكاية عن عبثيّة إقامة حياة على أعواد الثقاب، عن عبثيّة البشر في محاولاتهم للقفز خارج قوسي الميلاد والموت، عن عبثيّة المنطق الأبوي إذ يفرض الكبير على الصغير ما لم يختره، عن تلعثم الرجل والمرأة على حد سواء حيال تحديد المسارات، ورغبتهما الدائمة في الاستحواذ على كائن شامل يؤدي كل الأدوار من دون عيوب.
هذه حكاية تكشف عن هزلية محاولاتنا الدائمة للتسديد في مرمى الحياة، والاحتفال بالأهداف التي نتصوّر أننا أحرزناها في مرمى القدر، فواقع الأمر أن المرمى من الحراسة خالٍ، قوائمه من كبريت، والكرة كمشة من تراب.

لغة سليمة، غنيّة من دون تكلُف، كتبت بخطٍ أنيق، ومقاطع سرديّة تجبرك على إعادة قراءتها، صورٌ تنقل مشاهد معتادة من زوايا التقاط جديدة تعيد صياغة المكان فتمنح المشاهد ذاتها بصمة الابتكار، هنالك درجات عالية من الترابط والتجانس والانسجام أحكمت بنية هذا النص، فجاء على هذه الصورة الأقرب إلى الكمال…

مرة أخرى تفاجئني مسكيليانى برواية مبهرة تقدم لي من خلالها اسمًا روائيًّا سأحرص على متابعته في ما بعد، هذه رواية أتوقع لها أن تصل إلى منصات التكريم…

شكرًا للكاتبة فاطمة عبد الحميد على هذه الجرعة الفلسفية، والمتعة السردية، فقليلة هي الأعمال التي تزاوج بين الأمرين.

دار مسكيليانى للنشر Masciliana Editions

#محمد_سمير_ندا

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ