صندوق عائشة إبراهيم: عندما يتحول الأورغن إلى بندقية، وتُصوّر الرمال كالجنان؛ تكتمل أدلة وثيقة الإدانة…

في روايتها الأخيرة “صندوق الرمل”، تقدم الروائية الليبيّة عائشة إبراهيم وثيقة إدانة للجنس البشري برمّته عبر تقصّي أثر عمليّة تجريف الفطرة الإنسانيّة، وتحوّر الفرد من طور التعلُّق بمشيمة الحياة متمثّلة في الفنون والهوى، إلى التعلّق بزناد البندقيّة، وعدم التردّد قُبيل المشاركة في عمليات قتلٍ وذبحٍ جماعيّة، لكن عائشة إبراهيم كانت بينما تقدّم هذه الوثيقة التاريخيّة الهامة – التي أثق أنها قضت وقتًا غير قصير في توثيقها وتحريّ صدقيّتها في مراجع المؤرّخين والصحافيين – تُقدّم أوراق اعتمادها كروائيّة مهمة أتوقّع أن يكون لها في محاريب الكتابة شأنًا عظيمًا، مؤكدّة مرّة أخرى أن الأدب الليبيّ متجدد ومتطور، ولم يكتفِ بالمنجز الأدبي الكبير للعظيم إبراهيم الكوني، الراسخ والمستمر…

الإطار الواضح والعريض لهذا النصّ يصوّر الأيام الأولى للغزو الإيطالي لليبيا في عام ١٩١١ كأحد تبعيّات تداعي أركان امبراطورية بني عثمان، ثم تضيّق الكاتبة مساحة الرؤية لتصوّب نظرة قريبة نحو حادث المنشية الذي لا يعرفه أغلب القراء العرب، وربما الليبيّين أنفسهم، وما نتج عنه من نفي لقطاعٍ عريضٍ من المواطنين الليبيين البسطاء، من التساء والرجال والأطفال والشيوخ، إلى معسكرات ومستوطنات العقاب في المنافي.

تبنّت عائشة إبراهيم منهج الراوي العليم في نسج خيوط روايتها، يرى بعض النقاد والأصدقاء أن تحوّل هذا النص إلى نصّ بوليفونيّ مُتعدّد الأصوات كان ليمنحه ثراءً إضافيًّا، لكنني أعتقدُ أن الإصرار على تقنية الراوي العليم كان في مصلحة هذا النص تحديدًا، لأن الكاتبة أرادات أن تروي حكاية وطنٍ مُغتصبٍ على لسان الغاصب، أو حسب وجهة نظره للأمور، فكتبتْ نصًّا مُحايدًا أثق أنها بذلتْ خلاله جهدًا عظيمًا للتجرّد من انتمائها الشخصي والقومي، فمنحتْ للحكاية مصداقيّة عظيمة بمثل هذا التجرد، لأننا أمام رواية لا تُدين المعتدي، ولا تُشيطنه، ولا تُجبر القارئ على كراهيته بقدر ما تسرد الحقيقة، وتُدين الإنسان؛ الإنسان حين يمتلك القوة.

برعتْ الكاتبةُ في تصوير وجهين متناقضين للحياة، الحب أو الحرب، وكأنهما معادل للاختيار بين الحياة والموت، مرّرت الكاتبة قصصًا إنسانية تعجُّ بالمشاعر والعذوبة عن آمال الوصال التي بَترتْ معابرها مدافع الحرب، وبدّدت مناجاتها الهامسة طبولها الصخّابة، ولنا في قصة الفتى الإيطالي فريدريكو خير دليل، فقد زجُّوا به في حربٍ لا ناقة له فيها ولا جمل، لكنه وافق -فقط- لأنه أراد أن يغنم منها ما يعضّد فرص فوزه بحبيبته، بيد أن الحرب ابتلعته فلم يبق منه سوى دفاتره، كذلك كان لدينا العشق الفريد الذي لفحَ وجْدُه الجنديّ ساندرو، الشخصية الرئيسية في الرواية. حيث صرعت الحيرة ساندرو بين عشقه لبائعة الحليب الفقيرة حليمة، وتأدية مهامه في جيش إيطاليّ يؤمن أن صندوق الرمل الليبيّ بات من حقه…

يعود ساندرو إلى إيطاليا مصابًا في بداية الحكاية، وإصابة روحه أشد وطأة وإيلامًا من إصابة كتفه، يهرع إلى الصحفي الإيطالي فاليرا (شخصية حقيقية)، مقرّرًا أن يروي له الحكاية، فتتراكم صفحات هذه الرواية الآسرة.

اختلفت الآراء حول التقنية الزمنيّة التي نهضت عليها بنية الرواية، فهل هي تقنية متشظيّة لا تلتزم بالنسق التصاعدي للحدث؟ أم أنها حكاية أخرى دائرية تبتدئ بمشهدٍ متقدّم نسبيًّا في زمن السرد، ثم تعود وتسرد الحكاية تصاعديًّا وصولًا إلى مشهد البداية، لتتكئ عليه ممهدة لتتمّة الحدث؟ ولعلّ ما سبّب هذا الاختلاف هو كثرة الاستدعاءات في فصول الرواية، فالراوي العليم كان كثيرًا ما يتوقّف إبان سرد الحدث ليستدعي مشاهد من التاريخ الشخصيّ للشخصية المرويّ عنها، سواءً كان ساندرو أو حليمة. هذه الاستدعاءات منحت النص شبهة التشظّي، وعلى ذلك؛ مازلت أعتقد أن الزمن في هذه الرواية قد اعتمد الحبكة الدائريّة، مع احترامي لبقية الآراء.

العمق التاريخيّ لهذه الرواية كان شديد الثراء، حتى أنني قد أصف هذه الرواية بأنها رواية informative بدرجة كبيرة، وهذا لا ينتقص من قيمتها الأدبيّة بطبيعة الحال، ولكن؛ ربما كان الإكثار من تضمين الأسماء الخاصة بشخوص إيطاليين مربكًا بعض الشيء…

نقلت لنا الكاتبة ببراعة طبيعة الحراك المجتمعيّ والسياسيّ في إيطاليا قبل الحرب، وكيف علت أصواتٌ تطالب بالحرب وتُنشد في مديحها الأغاني، ونادتْ أصوات أخرى بوقف مدّ التزييف الذي يتّبعه أنصار الحرب بتصويرهم للأراضي الليبية كأنها جنة عدن التي سيقطف منها الطليان ثمار الحياة، بينما هي صندوق رمل فسيح لا زرع فيه ولا ثمر إلا ما يكفي بالكاد ساكنيه، لكن أطماع الساسة الطليان لم تأبه لا بمعاناة شعب فقير مسالم، ولا بمصائر أبنائها الذين ألقت بهم في صندوق تعرف أن رماله قد تمتص حيواتهم.

كانت الكاتبة موفقة للغاية في رسم شخصية المغنية الإيطالية “جيا جارسيندا” التي تغنّت بالحرب في أغنية شهيرة باتت أشبه بترنيمة الحرب التي يتلوها الجنود كما الصلوات، وكم كان مُوفّقًا ربط صوت المغنّية الداعي للقتال مع عُري جسدها وطاقتها الإغوائيّة الهائلة، وكأن الحرب ليست سوى عاهرة على استعداد تام لتقديم أي شيء وكل شيء، مقابل تحقيق الغاية/النصر.

نحن إذن أمام رواية إنسانيّة بالأساس، ليس من الإنصاف احتجازها بين قوسيّ الرواية التاريخيّة، إذ أن النص يفيضُ بصورٍ متقنةٍ لصراع الإنسان مع ذاته، لم يختر أحد مصيره في هذه الرواية، كما هو الحال في حياة كل منا، لكن الصراع هنا منشأة مقاومة الإنسان للتحوّل إلى نقيض ما تمنّى وأراد، فالعازف يستبدل نوتة موسيقاه ببندقية، وبائعة الحليب تجبر على استبدال حريّتها بسجن ديموميّ لا مفر منه ولا منفذ إليه، وفريدريكو أراد الحب/الحياة فنال الموت في ذروة نوبات الحلم، ولا أنسى تلك المرأة المريضة في مستوطنة العقاب، التي افتدتها النسوة مقابل منح الحياة طفلها. مقايضات الأقدار لم تنصف أحدًا، والساسة لا يبصرون أبعد من خراط الحرب وتطورات الاقتتال، لكن الأمم العظمى لا ينبغي عليها أن تقدم أبنائها كقرابين حتى تعزف أهازيج النصر.

عاني ساندرو بغية استعادة الإنسان التائه في دهاليز عقله، ودّ لو يستعيد حليمة من مصيرها الذي ساهم في تحديد مساره، ربما انتصر الإنسان على الجندي، وربما غلب الندم طبول الحرب، لكن الصحوة تأتي دائمًا بعد فوات الفرص، فحليمة التي اقتُلعت كزهرةٍ بريّة من بيئةٍ لم تألف سواها، سارعت إلى الذبول بعدما انسحبت من حولها أسباب الحياة، وفقدت أُلفة الوطن، الوطن الذي لم تعرف كم كانت متعلّقة بوجوده، فسقطت في هوة سحيقة من الغربة وقتما أدركت أنه قد سلب إلى أجلٍ غير معلوم…

يطلق هذا النص صرخة في وجه الحرب، تمتد منه الأظافر لتخمش وجوه البشر القتّالين. نصّ يقدم شهادة إدانة -مدعومة ببراهين الجرم – للإنسانية، تحوي أوراقه نداءً مخضبًا بالوجع، يدعو الإنسان -ويرجوه- أن يترك الحياة لتمضي في مجراها وتسري في عاديّتها، فالحرب نقيض الحياة، والحب لا يعرف الرصاص، ودوي البارود لا يمكن بأي حال من الأحول أن يعوّض صوت الموسيقا.

أنصفت عائشة إبراهيم حليمة (ابنة خيالها) ورفيقاتها الحقيقيّات بعد مرور أكثر من قرن على اختطافهن، ارتكزتْ على ما دوّنته أقلام لم تجف ضمائرها مثل قلم فاليرا وغيره، فهل ينتظر العربُ اليوم مائة عام ونيف، حتى ينتفض قلم ما ليحرّرهم ويُكرّم رفاتهم، أو حتى يُبعث فيهم من أنفسهم فاليرا جديد، يوثق الجرم ويشهد على حقيقيّته؟

نصّ آخر شديد التميّز في قائمة البوكر، وكاتبة أنتظر منها -شخصيًّا- المزيد من التفوق…

ناقشنا الرواية في نادي صُنّاع الحرف في حضور الكاتبة، وكان النقاش ثريًّا…

#محمد_سمير_ندا

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ