مساكن هبة خميس: قسوة الواقع تضع المهمشين تحت الضوء…

مساكن الأمريكان – هبة خميس

عندما تنصفك الكتابة في قراءة هي الأولى لكاتبة أو كاتب، تمتزج متعة القراءة بنشوة الاكتشاف: كان هذا ما شعرت به عقب قراءة رواية مساكن الأمريكان للكاتبة هبة خميس…

على صعيد المكان المعلن، أو ما يسمّى بالمسرح المكانيّ للنص؛ نحن أمام رواية سكندريّة أخرى، لكن هبة خميس آثرت أن تقدم للقارئ العربي والمصري إسكندرية مغايرة لما استقرّ في الوجدان الجمعيّ المصريّ، إسكندرية الفقر والمعاناة والعشش التي تنتشر كبثور الأوبئة على جسد المدينة، إسكندرية هبة خميس تختلف كُليًّا عن إسكندرية المنتزه والمعمورة، نحن هنا في إسكندرية المقهورين لا المصطافين، تلك الإسكندرية التي تئد الأحلام في طور التكوّن، لا تحمل ولو طيفًا واحدًا من ملامح إسكندرية كفافيس الكوزموبوليتانية…

تطفو حياة المهمّشين على سطح الحكاية، كموجة عارمة تزيح الخيال القديم، وتعصف بالصور المستقرة في ألبومات الطفولة، فنتعرف إلى أسرة فقيرة تسكن جدرانًا من صفيح، نتصفح يوميّاتهم عبر تقنية تزاوج بين البوليفونية والراوي العليم، وعلى اختلاف الأصوات من حيث الفكر والتجربة، ومع ثبات الراوي الذي يظل وفيًّا لحياديته، يظل الفقر والقهر خيطين رئيسيين يغزلان الأحداث ويمثلان حلقات الوصل والتلاقي. كما عضّدت الكاتبة وحدة نسيجها الروائي بخليط أحسنت جمعه وأرشفته من وقائع وتفاصيل توثّق الفضاء الزمني للسرد، فمنحت للنص مصداقيّة مضافة.

ومساكن الأمريكان مكان حقيقي بنيّ في السبعينيّات بمنحة أمريكية، لكنه تحول تدريجيًّا بيد الإهمال إلى مرتع للفقر والجريمة والدعارة، ولعل المانح أراد حياة كهذه للممنوحين، وكذا الوصيّ على المنحة ووزرائه ومحافظيه غير المحافظين، منطقة حديثة العهد التجأت إليها وفود النازحين غير الميسورين فنبتت بين كل أربعة جدران من الصفيح المتهالك أسرة موهوبة للشقاء.

تبتدئ الحكاية -التي لا تُروى وفق نسق كرونولوجيّ – من بيت سليم وسعاد، ثم تمر على حيوات الأبناء بصوت الراوي العليم، سيد وزهرة أبناء سليم وسعاد، ثم علي، ابن سليم من زوجته الثانية، الذي يغدو أقرب الأبناء إلى قلب سعاد رغم كونه ابن ضرّتها، وهناء زوجة سيد.

اختارت الكاتبة لشخوصها مسارات تؤهلها لنهايات دراميّة منتزعة من جسد الواقع، فما بين الموت أسفل الأنقاض إلى الهروب مرورًا بالانسحاب والضياع تفاوتت أوجه المأساة، بيد أن حكاية بعينها ظلت تلح على فضاء الحكي، ألا وهي حكاية علي، وثيمة العبور التي تجسدت في قصته.

عليٌّ هو الصبي الأجمل بين أبناء سليم، هو ابن الزوجة الثانية المليحة، وربيب الزوجة الدميمة الأولى، ومستقر نظرات الحسد وسهام الغيرة من أقرانه، وأولهم أخوه سيد، وبدرجة أقل أخته زهرة، ثم العالم بأسره. يعيش عليّ حياة يشعر فيها بتميّزه كلما تبلورت نظرات الغيرة والإعجاب في أعين النُظّار، لا يشعر أنه حرّ، كما يعرف أنه لم يختر شيئًا مذ ولد بين أنقاض الصفيح، يحاول أن يكون رجلًا كأقرانه، يبذل جهدًا بغية إرضاء من حوله، لكنه في نهاية الأمر يعجز عن العثور على نفسه كما ترغبها عيون محيطيه.

يقرر عليّ اليتيم العبور في مجتمع اقترنت فيه كلمة العبور بنصر يتيم لم نعرف سواه، يشعر بالراحة في ارتداء ثياب النسوة، وينفر من لحمهن البضّ القابل للعجن والطيّ، يثور على ذكورة فُرضت عليه ويخاطر بالعبور إلى الجانب الآخر من هويّته المترنّحة، بينما المجتمع برمته على أهبة الاستعداد لسحقه، لأنه لم يقنع برجولته، ولأنه تجرّأ على جسده فباشر التحول الفسيولوجيّ إلى امرأة.

وفي نهاية دراميّة أخرى مستمدة من وقائع وحوادث حقيقية على ما أذكر، ينتهي عليّ إلى ضياع سرمدي، يستقر في قاع الحياة حيث لا عابر ينقذه، ولا رغبة لديه في التقاط ما قد يُرمى صوبه من حبال الأمل والنجاة، كأنه حالم آخر آثر الغرق في قعر بير مسعود، لكن عليًّا هبط إلى القاع لا ليبحث عن قروش الحالمين، بل ليتنفس التيه والضياع، والغرق.

يتحول عليّ إلى شبح، شبح غريب يشبه آلاف الأشباح الهائمة في أزقة المحروسة التي لم تتخلص حتى اليوم من توابع الزلزال.. بينما تستسلم بقية الشخوص لمصائر مشابهة وطيوف متنوعة من الضياع، فلا يفرق القارئ بينهم وبين عليّ في شيء، إلا في الاعتراف بالغرق..

أقسى ما في هذه المرويّة الآسرة هو واقعيّتها المفرطة، فلو كانت هذه الجغرافية المكانية من وحي الخيال لكان ضجيجها أقل وطأة وأخفت ضجيجًا، لكن هبة خميس برعت في انتزاع الحكاية من تراب الواقع اللصيق بالأرض، وصاغتها بلغة متميّزة محكمة، تمرر عيني القارئ أمام شريط الحياة من دون أن تملي عليه انطباعًا ولا شعورًا، وتتركه ليكوّن انطباعه، ويجترّ ألمه من دون وصاية…

نص أدبيّ محكم، مؤلم، أحسبه من أفضل النصوص المصرية التي صدرت في السنوات العشر الأخيرة.

تحية وتقدير للكاتبة Heba Khamis

#محمد_سمير_ندا

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ