علي بابا الركابي، وليل العراق الحزين…

في روايته الصادرة عام ٢٠١٣، ليل علي بابا الحزين، المدرجة في القائمة الطويلة للبوكر في عام ٢٠١٤، يمزج الروائي العراقي الكبير عبد الخالق الركابي، بين سيرة الوطن، وسيرته الذاتية، عبر سرد توثيقي لمرحلة مفصلية من تاريخ العراق، مبتدئًا من لحظة سقوط بغداد أمام المحتل الأميركي، قبل أن يرتد كشظية تعبر الزمان بعكس دورانه، مستدعيًا البدايات التي عبدت كل الطرق أمام الاحتلال الأول، عاقدًا مقارنة تاريخية بين الظروف والأجواء التي جعلت من العراق عرضة للاحتلال، ومطمعًا للغزاة.

الراوي هنا، وهو الركابي ذاته -وقد وثق حضوره بسرد أسماء مؤلفاته السابقة في أكثر من موضع- يحلق فوق المشهد الدموي لبغداد التي انصهرت جيوشها بين عشية وضحاها، فيستهل نصه بأقاويل تتردد عن أن كهرمانة، المنتصبة في الكرادة، قد توقفت عن سكب الزيت في جرارها، بعدما شوهد اللصوص الأربعين فيما يتسللون من مكامنهم، كل إلى جهة غير معلومة. والرمز هنا يمهد لقوادم الأحداث لا ريب، فالروائي المُطارِد لخيوط روايته الجديدة، يجد نفسه حبيس سرداب مظلم ليلة سقوط بغداد، إثر وشاية من أحد رجال النظام وزبانيته، قبل أن تحرره القوات الأميركية من محبسه؛ يتحرر الروائي، ولكنه يعود إلى عراق مغاير لذلك الذي عرفه قبل ساعات.

والرواية قيد الكتابة هنا تخوض في فصول التاريخ، مسترجعة في طيات فصولها المرحلة السابقة -والممهدة- للاحتلال البريطاني للعراق، عبر نوع من التخيبل التاريخي للأحداث، فيما روايتنا هذه تُزاوج بين الاحتلالين، فتجمع بين الصورتين في ذات الإطار، توازيًا.
عقب القسم الأول، الذي عنونه الركابي بالخروج من المغارة، يشرع الكاتب في نصب محاكمته للكافة في القسم الثاني من الرواية؛ إفتح يا سمسم، وهو هنا يوزع على العراقيين أنصبتهم من الجريمة التي شهدتها أوطانهم، فاللصوص الهاربين من جرار كهرمانة، قد تجسدوا في غالبية المنتفعين من الاحتلال، لتجتمع على جسد العراق المثخن بالخيانات أنياب المواطن والمحتل على حد سواء.

انتشر اللصوص وتباروا في تنظيم النهب والتهريب، فيما المحتل يتابع السرقات ببسمات لا تستر نواياها، والروائي-الركابي ليس في واقع الأمر سوى علي بابا المنهك، خائر القوى، العاجز عن الفعل، والمشطور بين عقلين وقلبين، تمامًا كدكتور جيكل ومستر هايد، تشعر طيلة الوقت وكأنه ينسحب طواعية إلى داخله، يتابع ويحلل ويراقب، ولا رغبة لديه حتى في إسداء النصح الصريح، هو منخرط باستدعاء وترتيب التاريخ، ثم وضعه أمام مرآة الحاضر، ليستخلص نقاط التشابه، إلا أن عجزه يتبلور في انعدام مقدرته على الانتهاء من مسودة الرواية، وقد اجتثت آلات الدمار القدر الأكبر من الرغبة، وشوشت تفجيرات الفصائل على صفاء الأذهان، وازدحمت العقول بأسماء وصور الراحلين.

في القسم الثالث والأخير من النص؛ كلمات كهرمانة الأخيرة،
وعقب رصد تحولات الشخوص الدرامي عقب الاحتلال، يختتم الكاتب الحكاية بوضع القارئ أمام أبواب نصف موصدة، تظل روايته/روايتنا غير مكتملة، تهاجر دنيا، ويظل يحيى شفيق مخطوفًا، بينما يحيى آخر، صغير، يطرق أبواب الحياة فيما وراء المحيطات.

لغة الرواية جاءت هادئة رصينة، لا تخلو من حميمية ودفء، رسم الشخوص الرئيسية كان وافيًا مُقنعًا في أغلب الحالات، وأنا هنا أعني الروائي، ويحيى شفيق، ودنيا، وبدر فرهود، علاوة على أن الرواية جاءت حافلة بشخصيات ثانوية مثّل كل منها رمزًا ما، أو حالة ما، وأنا هنا اذكر شخصيات مثل حمزة، ونجيب، ومها، وأصحاب المكتبات في شارع المتنبي، والإخوة المشتبكين طيلة الوقت، وزوجة الروائي، ومدير الفندق في الأسلاف، والعامل في ذات الفندق، كلها نماذج غنية بالتفاصيل، رسمها الركابي بدرجات متفاوتة من الترميز، كما أنني استحسنت محاولة الكاتب لإشراك القارئ طوال الوقت في أزمة روايته غير المكتملة، إلا أن الأمر السلبي الذي شاب هذا النص من وجهة نظري، كان السقوط في فخ التقريرية والمقالية، إذ حرص الروائي على دس عشرات الأحداث والتواريخ وأسماء الأشخاص والمطاعم والمقاهي والفنادق، الأمر الذي أشعرني كقارئ بدرجة من درجات الإسهاب في السرد، بما يخل بنسق الأحداث ويضر بوتيرتها، ويقولب الرواية في إطار التأريخ.

رغم ذلك، أعتقد أن الركابي (المولود في ١٩٤٦)، كان حريصًا على نقل ذاكرة المكان وتاريخه فوق الورق، علاوة على المزاوجة بين توثيق تاريخه الشخصي، ومشاهداته، بتوثيق تلك اللحظات الدامية من عمر العراق، لذلك فقد اجتر الكاتب ألمه لينتج لنا هذا النص المحكم، عبر دفقات متتالية من الألم المختزن في وجدانه.

عن سرقة التاريخ، عن احتلال العقل قبل الأرض، عن لصوص علي بابا الذين أطلق الاحتلال سراحهم، والسقوط الجماعي لقطاع عريض من العراقيين، عن علي بابا الحزين، وليل العراق الطويل الذي لا ينتهي، وسماء العراق المدججة بالبارود والدم وعوادم المدرعات، جاءت قراءتي الأولى لأدب الروائي العراقي الكبير عبد الخالق الركابي، موفقة، تمهد الطريق أمامي لطرق أبواب عوالمه الروائية، خصوصًا تلك التي وردت أسماءها في هذا النص.

#محمد_سمير_ندا

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ